يبدو أن تونس ستظل لفترة طويلة تعيش في حالة احتقان مجتمعي حاد، وتحت صراع مفتوح، لا يدري أحد إلى أين سيصل مداه، فما يلبث أن يخرج هذا البلد المغاربي، الذي فتح باب الثورات العربية، من أزمة حتى يدخل في أخرى، لكن العامل المشترك الأكبر بين كل أزماته يكمن في محاولة التيار الديني بقيادة حركة النهضة المسيطرة بشكل رئيس على الحكومة، ولجنة صياغة الدستور، في فرض هيمنتها على مجمل المشهد بجميع أبعاده، وإقصاء القوى الأخرى التي تأبي هذا النهج، وتقاومه بكل السبل المتاحة عبر المعارك الإعلامية أو الاحتجاجات في الشارع.
ربما تكون أزمة اتحاد الشغل، وتهديده بإضراب عام تم تعليقه في اللحظات الأخيرة، بعد مفاوضات مع حكومة النهضة نهاية الأسبوع الماضي، حلقة من حلقات هذا الصراع المفتوح الذي تعيشه تونس منذ صعود حركة النهضة لصدارة المشهد.
فالمسألة تتجاوز خلافات على سوء إدارة البلاد، وتحديات اقتصادية واجتماعية، وعثرات في مشاريع التنمية لا يستطيع النظام الحاكم الحالي التجاوب معها، وما يتعلق بها من مشكلات في الأجور والبطالة وتراجع المستويات المعيشية وغيرها، إلى قضايا تتعلق بأبعاد سياسية وأمنية، شعارها العريض “العنف السياسي” من خلال وجود جماعات تحظى بدعم حركة النهضة، لها غطاء سياسي وقانوني تحت اسم “رابطات حماية الثورة”، تقوم بملاحقة المعارضين، وممارسة ضغوط عليهم، والقيام بانتهاكات حقوقية، تشكل جرائم جنائية، فضلاً عن حملات تشويه لكل معارضي النهضة، وإلصاق تهمة جاهزة لهم أنهم “فلول بن علي”، أو استخدام شعار “التطهير” في غير موضعه، للتخلص من كل من يقف ضد محاولات هيمنة التيار الديني على مؤسسات الدولة، أو انتقاد ممارساته وفشل سياساته، بالتوازي مع نشاط الجماعات السلفية الذي لا يقل خطورة عن هذه الممارسات المفزعة للشارع التونسي بكل مكوناته السياسية والاجتماعية.
ومن هنا أتت أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل مع حكومة النهضة، بعد محاصرة ميليشيات “رابطات حماية الثورة” له، في الاحتفال بالذكرى الستين لاغتيال الزعيم العمالي البارز فرحات حشاد، والقيام بالاعتداء على الاتحاد، وسط اتهامات لقياداته بالفساد، وسيطرة أنصار الرئيس المخلوع بن علي على هذا التجمع النقابي الكبير، تلك التهم التي تتنافى مع دور هذا الاتحاد البارز في الثورة التونسية، ونضالاته التي لا يمكن إنكارها على مدار تاريخه، الأمر الذي دفع الاتحاد إلى التصعيد لمواجهة تلك الضغوط التي من بينها محاولة استبدال قياداته بقيادات جديدة محسوبة على حركة النهضة، عبر سياسة الترهيب والتشويه، فضلاً عن محاولة إبعاد هذا التكتل النقابي عن زخم الأحداث، خاصة في ظل الربط بين الحقوق المطلبية والسياسية لدى قطاعات عديدة في الشارع التونسي، وما يمثله ذلك من ضغط مكثف على حكومة النهضة التي تثيرها الحركات الاحتجاجية النشطة، خاصة في الأطراف وليس المركز فقط، والتي لا تجد سبيلاً إلا بالرد القمعي عليها والاستخدام المفرط للقوة، على يد أجهزة الأمن، كما حدث مؤخراً في “سليانة”، الأمر الذي كان محل انتقاد واسع من مؤسسات حقوقية دولية عديدة، ومبعث قلق المجتمع الدولي الذي عبر عنها خلال اجتماع دبلن لقادة الأمن والتعاون الأوروبي الأخير.
ولأن صراع الاتحاد العام للشغل مع حركة النهضة وحكومتها، ليس منفصلاً عن سياق الأزمة العامة التي تعيشها تونس، فإن واقعة الاعتداء الأخيرة، أثارت حفيظة كل القوى السياسية والتي رأت أن ثمة ضرورة لفتح ملف “رابطات حماية الثورة”، التي باتت تُوظف في صراع سياسي لخدمة أجندات خاصة بحركة النهضة، وبشكل يتجاوز القانون لإرهاب الخصوم السياسيين للقوى الدينية، وإسكات أصواتهم حتى ولو بالعنف الممنهج.
الدعوة إلى حل “الرابطات”
ورغم النفي الدائم لمنتسبي “رابطات حماية الثورة” أي علاقة لهم بالحزب الحاكم، وبالمثل نفي حركة النهضة أن تكون تلك الميليشيات منتمية إليها، إلا أن الدور الوظيفي الذي تقوم به من ناحية، والذي يصب في خانة القوى المسيطرة، والدفاع المستميت لقيادات النهضة عنها وتوفير الحماية لها من ناحية أخرى، يؤكد صحة دعاوى المعارضة، إذ تطالب كل القوى بحل تلك الرابطات التي عليها علامات استفهام، بما في ذلك اتحاد الشغل الذي ذكر في بيان أخير له “أن الأحداث التي عاشتها تونس في الأشهر الأخيرة، أثبتت أن “رابطات حماية الثورة” ما هي إلا ميليشيات تتحرك بأمر من الحزب الحاكم للاعتداء على كل من يخالفه الرأي”.
وهذا الموقف تتبناه القوى الليبرالية كحزب “نداء تونس”، الذي تم اغتيال أحد كوادره المحلية قبل أشهر معدودة على يد منتسبي إحدى هذه الرابطات، فضلاً عن مظاهر الاحتجاج المتكررة ضد افتتاح مكاتب محلية لهذا الحزب، بحجة أنه ممثل للتجمعيين من بقايا النظام السابق، والذي يتم استهدافه باستمرار لإبعاده عن ساحة المنافسة، خاصة أن أسهمه السياسية في ارتفاع في مواجهة حركة النهضة.
وبحسب الباجي قائد السبسي الوزير الأول السابق ورئيس حركة نداء تونس، فإن ثمة إجماعاً من طرف كل الأحزاب على رابطات حماية الثورة أو بالأحرى “تخريب الثورة” على حد وصفه، باستثناء حركة النهضة.
وتتبنى القوى اليسارية أيضاً، خاصة حزب العمال الشيوعي، نفس التوجه من تلك الرابطات، وترى فيها خطراً على المسار الديمقراطي بانتهاج العنف لأغراض سياسية، وكذلك منظمات المجتمع المدني، وحتى موقف الأحزاب المنضوية في “ترويكا الحاكم” تؤيد موقف المعارضة من هذه الميليشيات، إلى درجة أن بعض الوزراء بالحكومة غير المحسوبين على حركة النهضة، أطلقوا تصريحات لا تقل قوة في مناهضتها لتلك الرابطات، عن المنسوبة إلى الفصائل المعارضة، الأمر الذي يعكس خللا في التركيبة الحكومية، وعدم انسجام، ويؤكد الشكوك في العلاقة العضوية بين هذه الرابطات وحركة النهضة بعيداً عن مجمل الموقف الحكومي، إذ نرى في المقابل الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة يرفض حل “رابطات حماية الثورة”، ويبرر دفاعه عنها بأنها “منتوج من منتوجات الثورة، وهم مستقلون وليسوا تابعين لأي جهة”.
الأكثر من ذلك أنه انتقد مطالب الاتحاد العام التونسي للشغل والقوى السياسية بحل رابطات حماية الثورة، معتبراً ذلك مطلباً سياسياً، وليس اجتماعياً.
وسار على نهجه رئيس الحكومة “النهضوي” حمادي الجبالي، وأكثر من وزير منتسب لحركة النهضة، يرون أنه لا يمكن حلها بقرار سياسي، وأن لها وضعية قانونية، ومن يعترض فعليه الذهاب إلى القضاء. بل إن بعض نواب النهضة بالمجلس التأسيسي كالصادق شورو خلال مناقشة توطئة الدستور دعا إلى ضرورة التنصيص على هيئة دستورية لحماية الثورة، وذلك على خلفية الدعوات إلى حل “رابطات حماية الثورة”.
وقد حفزت هذه المواقف الداعمة لتلك الميليشيات، ورفض اتخاذ قرار سياسي بحلها، بعض المحامين، خاصة المنتمين للجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري، وممثلين لمنظمات المجتمع المدني، وشرعوا في اتخاذ إجراءات قانونية باتجاه محاصرة نشاط تلك الميليشيات التي كان يجب إنهاء دورها بمجرد تبلور دور مؤسسات الدولة ما بعد إسقاط بن علي، برفع دعاوى قضائية وإرسال تنبيه للكاتب العام للحكومة، استناداً إلى أنها تلعب دوراً حزبياً بالمخالفة للقانون، وتمارس العنف، خاصة في ظل تجاهل الحكومة لمطالب كل القوى السياسية، رغم أن بإمكان وزير الداخلية أو الشؤون الاجتماعية، حسب رأى القانونيين، اتخاذ قرار بحلها طالما تهدد الأمن والسلم العام، أو تتجاوز طبيعة دورها المنصوص عليه في قانون الجمعيات الأهلية.
تمسك حركة النهضة وحكومة الجبالي بدعم “رابطات حماية الثورة” تحت لافتة أنها تعمل وفق القانون، بل وإبداء الرغبة في دسترة وضعها، يمثل أحد أسباب زيادة حدة الاحتقان السياسي في الشارع التونسي، ويقدم للمعارضة دليلاً على سوء النوايا، وأن تلك الحركة تفضل العنف السياسي على لغة الحوار في التعاطي مع الفرقاء السياسيين، بل إنها تعدّ مثل هذه الرابطات، حسب رؤية كثير من المراقبين، أداة لمواجهة المعارضين، بما في ذلك اتحاد الشغل الذي تتهمه حركة النهضة بأنه يضم قيادات شيوعية مسؤولة عن الاحتجاجات الأخيرة، خاصة في “سليانة” و”سيدي بوزيد”، بل إن بعض المراقبين يربطون بين الاعتداء على اتحاد الشغل، ودعوات الإضراب الأخيرة، وأن ما تم ما هو إلا عقاب أو رد انتقامي من جانب حركة النهضة عبر تلك الرابطات.
وإن كان قد تم اتفاق على تعليق الإضراب العام، وارتأى اتحاد الشغل أن التلويح به كان كافياً لإيصال رسالة قوية للحكومة عن رفض نهج العنف والتهميش، وأنه لا داعي للمضي فيه لمراعاة ظروف البلاد الاقتصادية والأمنية، غير أن عدم الاستجابة لمطلب حل “رابطات الثورة”، وعودتها لممارسة نشاطها المناوئ للاتحاد أو لفصائل المعارضة قد يفجر الأوضاع الملتهبة أصلاً من جديد، وربما ينفذ الاتحاد لاحقاً الإضراب العام وتسانده القوى السياسية، التي لم تعد ترى أن ثمة سبيلاً إلى الحوار مع حركة النهضة، لأنها لا تفي بوعودها، وتصر على موقف الهيمنة وإقصاء الآخرين .
وإن كان يبدو أن ضغوط رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي وتهديده بالاستقالة مؤخراً إن لم تتم الاستجابة لمطلبه بتغيير حكومي، ستجد صدى قريباً. وثمة إشارات من رئيس الحكومة الحالي حمادي الجبالي نفسه إلى أن ثمة تغييراً وزارياً مرتقباً مصغراً أو موسعاً، بل ربما يتم تغيير رئيس الحكومة ذاته بحسب تصريحات أخيرة لقيادات النهضة، لكن المرزوقي لم ينجح حتى الآن في إقناع الفرقاء على الجلوس إلى مائدة حوار واحدة، رغم مبادراته المتعددة.
لكن خطوة إقالة الحكومة الحالية المتهمة بالانحياز إلى فصيل على حساب فصائل أخرى، والفشل في الملفين الأمني والاقتصادي بشكل خاص، ليست كافية، وسط هذا المشهد المتأزم، صحيح أنها إن تمت ستحدث قدراً من الارتياح في أوساط عديدة، وربما ستخفف من حدة الاحتقان الراهن قليلاً، لكنها لن تنهي مساحة عدم الثقة، والصراع السياسي المحتدم بين حركة النهضة وفصائل المعارضة، طالما لم يشرع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في تغيير نهجه المستفز لشركاء الوطن، واتخاذ مبادرات جادة باتجاه حوار وطني حقيقي على قاعدة بناء توافقات للمرحلة المقبلة، وإشراك كل القوى في عملية بناء تونس الجديدة، بمنطق المشاركة لا المغالبة والتهميش.
وغير ذلك، سيتصاعد الصراع السياسي، ويزداد توتراً، خاصة مع الاستحقاقات المقبلة المتعلقة بإقرار الدستور الجديد، وإجراءات العدالة الانتقالية التي يتم النظر إليها بتشكك، وكأداة انتقامية انتقائية في مواجهة المنافسين سياسياً، إضافة إلى الانتخابات المقررة في يونيو/حزيران المقبل، ومعاركها المفتوحة التي سيتحدد على أساسها، ما إذا كانت الصراعات ستأخذ مسار الصعود أم الهبوط، وهل يمكن للقوى الإسلامية أن تظل مهيمنة على المشهد، أو أنها ستتراجع في مقابل صعود القوى الليبرالية أو اليسارية؟
واقرأ أيضاً:
الإسلاميون في تونس.. لماذا غابوا عن المشهد؟ / تونس: من يقطف ثمار ثورة الشعب!