منذ عدة شهور، كان تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لما بعد المصالحة ولا يزال أحد المطالب الرئيسة التي تحظى بدرجة عالية من الاهتمام والنقاش في مختلف الأوساط الشعبية والسياسية والتنظيمية الفلسطينية والعربية، نظرا لما تحمله طبيعة التشكيل الوزاري من مؤشرات ومعان ورموز تدل على طبيعة المرحلة السياسية الحالية والقادمة، وتعكس طبيعة التوجّهات المستقبلية وآفاق المصلحة العامة للشعب الفلسطيني.
وعلى الرغم من مرور سنين صعبة على شعبنا وأمتنا كافة، منذ بدء الصراع الكريه بين أكبر تنظيمين سياسيين فلسطينيين شقيقين، فان توقيع اتفاق المصالحة بين فتح وحماس مؤخرا، واتفاقهما وبقية الفصائل الفلسطينية على تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية، وعلى ما يعقبها من تفعيل لمنظمة التحرير الفلسطينية وأطرها الشرعية، وضع دفة القيادة الفلسطينية على بداية الطريق السليم، الذي باركته كل القوى الوطنية والإسلامية، ورأت فيه رافعة حقيقية للعمل النضالي الفلسطيني والوحدة الوطنية الفلسطينية، ومقدمة لإجراء انتخابات ديمقراطية متعددة.
ونظرا لأن الحكومة الفلسطينية هي الأداة التنفيذية الرئيسة لتنمية المجتمع وتطويره، وبما أنها الجهة التي يناط بها مسؤولية النهوض بالمجتمع وتحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد، فلم يكن غريبا أن نسمع ونقرأ ما يشير إلى اهتمام علماء الاجتماع والسياسيين والاقتصاديين والتربويين والمثقفين بإعادة تشكيلها ،والى إبداء الآراء المسئولة حول مهامها، وخصائصها، بل وخصائص أعضائها الذين يفترض أن يكونوا وزراء واعدين وقادرين على عبور المرحلة بكفاءة مشهودة، وشجاعة محسوبة، ونزاهة مأمولة، ونظافة تعيد الثقة إلى المواطن، وتحسّس العالم أننا نضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وأننا نحقق مبدأ تكافؤ الفرص للأكفياء من شعبنا دون تمييز.
وفي هذا السياق، أعجبتني مقالة قرأتها، قبل فترة وجيزة لصديق عزيز. وهذه المقالة تتعلّق بموضوع الثورات العربية والتشكيل الوزاري السابق، وما يقال عن توجّه رسمي لتشكيل حكومة (تكنوقراط) فلسطينية من المستقلين فقط، بدلا من تشكيلها من ذوي الكفاءة الوطنيين المؤيدين للمصالحة والقادرين على حمل أعباء المرحلة بشهامة واقتدار، بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية أو ألوانهم السياسية. قال الصديق في مقالته المعنونة "الثورات العربية وتداعياتها":
"ينبغي أن ندرك أننا لا زلنا في مرحلة تحرّر وطني، على الرغم من تصدّي نظامنا السياسي لمهمات أخرى، على رأسها (الحُكم) أو إدارة شؤون الناس. لكن المهمة الأساسية تبقى مهمة التحرير والخلاص الوطني، التي يجب أن تنشغل بها كافة مكونات النظام السياسي الفلسطيني". وقال: " عندما نتحدث عن حكومة كفاءات أو مستقلين، أعضاؤها ليسوا من هذا الفصيل أو ذاك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الدّاعي لهذه الفصائل، إن كانت ستُسَلَّم مهمتها إلى الآخرين؟" انتهى الاقتباس.
ومع احترامي للفكر الذي يطالب بتشكيل الحكومة من مستقلين لا صلة لهم بالتنظيمات الفلسطينية، وللتفسيرات والتعليقات التي اطّلعنا عليها منذ جرى تداول هذا الموضوع في المطابخ السياسية وفي الوسائل الإعلامية، فإنني أقدّر وجاهة وعمق ما ذهب إليه الصديق، وخاصة لأن الاتفاقية التي توصلت إليها التنظيمات الفلسطينية بعامة، وتنظيما فتح وحماس على وجه الخصوص، لا تتماهى مع المعاني الشائعة للتشكيل الوزاري، ولا مع الفهم المعلن من بعض صانعي القرار، ولا تتفق مع جوهر ما نصّت عليه النقطة الرابعة من محضر "التفاهمات حول المصالحة الوطنية"، المؤرخ في السابع والعشرين من شهر نيسان سنة ألفين وإحدى عشر والتي نصّها: "اتفقت حركتا فتح وحماس على تشكيل الحكومة الفلسطينية من كفاءات وطنية، وتعيين رئيس الوزراء والوزراء بالتوافق".
ومن هذا المنطلق، ولما كان المعيار الأساس للاختيار هو الكفاءة الوطنية، وليس كون الإنسان مستقلا أو مؤطرا، فان نصيحتي للأخوة ،صانعي القرار الفلسطيني، أن لا يقعوا ،عند اتخاذ قرار بتشكيل وزارة الوفاق والمصالحة، في خطأ تاريخي يفقد الحكومة الدعم اللازم لإنجاحها، ويجعلها ضعيفة لا سند لها على الأرض، ولا مرجعيات مسئولة تحافظ عليها وتحاسبها وتعطيها القوة اللازمة لتحقيق الأهداف التي ستشكّل من أجلها. إن كون الإنسان مستقلا لا عيب فيه ولا نقيصة، وقد يكون أكثر من غيره امتلاكا لحرية الحركة والمرونة والمبادرة، ولكنه يبقى ضعيفا على الأرض،وفي معزل عن الأطر التنظيمية التي يحتاج إليها كي تعطيه القوة والحماية اللازمة عند الضرورة، كما يبقى في متناول المنظمات غير الحكومية التي يرتبط الكثير منها بالدعم الخارجي ذي الأهداف الخارجية غير الوطنية أحيانا.
وعلى الرغم من اعتقاد البعض، الذين يتبنون فكرة "حكومة تكنوقراط من المستقلين فقط"، أن مهمات الحكومة لا شأن لها بالسياسة، وان عملها يقتصر على الإعداد للانتخابات القادمة وإدارة الشئون المعيشية للمواطنين المختلفة في مرحلة لا تتعدى ستة شهور، فان الأصح من ذلك أن من يقود السلطة التنفيذية لستة شهور لا يمكن إلا أن يكون مسيّسا بامتياز وقادرا على التصدي بوزارته ومؤسساتها لكل من يستهدف الأرض والإنسان الفلسطيني وليس مجرد الإعداد للانتخابات وتصريف الشؤون اليومية للمواطن لفترة محددة، حتى يقتصر الأمر على مجرّد تكنوقراط.
إننا نعيش في مرحلة بناء وتحرر وصراع بقاء حقيقي ونضال من أجل تجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن حكومة يناط بها مثل هذه المهمات الجسام في مرحلة في غاية الصعوبة، ينبغي أن تمتلك خصائص تجمع كل مقوّمات القوة وفي مقدمتها الانتماء الوطني والتنظيمي الذي يشد أزرها، ثم الكفاءة، والنزاهة، والمصداقية، والخبرة، والتخصصية، وامتلاك المعرفة التي يشهد لها الناس، وتشهد لها ساحات العمل المهني والتخصصي في فلسطين، إضافة إلى القدرة على تحمّل تبعات القرار السياسي.
إن أعضاء الحكومة المأمولة لا بد أن يكونوا من أصحاب المبادئ والرأي والخبرة ومن البناة الحقيقيين الذين تركوا بصمات حقيقية تشهد على كفاءتهم في كل موقع وجدوا فيه، سواء كانوا منتمين إلى تنظيمات سياسية أو غير منتمين، وليسو مجرد أناس (تكنوقراط) نستدل عليهم من سيرهم الذاتية التي يمكن أن ننخدع بها أحيانا. وهذا يعني، أن كون الإنسان الذي يتم اختياره لتولي حقيبة وزارية "تكنوقراطيا" يمكن أن يكون شرطا ضروريا للنجاح، ولكنه لا يكوّن شرطا كافيا بالضرورة، إذا كان من خارج القوى الفاعلة على الأرض، أو كان غير مدعوم من التنظيمات السياسية القوية. إن حكومة من "التكنوقراط" المستقلين فقط، كما يحلو للبعض لا يمكن أن تكون قوية، لأنه لن يكون لها وزن سياسي يوفر لها الدعم والحماية، وعلينا أن نستفيد من تجارب غيرنا في هذا الشأن.
خلاصة القول، إن غياب البعد التنظيمي عن التشكيل الوزاري القادم مشكلة، ولا يقل عنه إشكالا هذا التأخر في تشكيل الوزارة الذي انتظره الجميع، بأمل، بعد اتفاقي الدوحة والقاهرة. فهؤلاء وغيرهم كثيرون ازدادوا تشاؤما وهم يقرءون على صفحات الانترنت والصحف الورقية يوميا ما وصل إليه الحال في ظل حكومة "تسيير الأعمال" التي يتندر عليها الكثيرون بزعمهم أنها دأبت على التسوّل الرسمي لتوفير الرواتب لموظفيها عوضا عن إنشاء برامج استثمارية حقيقية ومؤسسات إنتاجية ناجحة تكبر مع الزمن وتقدم العون للحكومة.
قال أحد الحكماء: "داو جُرحك لا يتّسع"، ولهذا فإننا لسنا بحاجة إلى مماطلة وتسويف في اتخاذ القرار، فالقطاع محاصر، والضفة تبتلع، والوقت من ذهب، والقضية الوطنية أعلى وأهم من كل الحسابات الشخصية والفئوية والتنظيمية، لأن الوحدة الوطنية مصدر القوة ومصدر الهيبة، والتسامح بين الأشقاء، على اختلاف مناهجهم، مؤشر قوة وشموخ للجميع. شموخ يغلّب المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية والتنظيمية ولا يتحقق مع الضعف والهوان، وإلا كان شموخا بالمعنى السلبي الذي عبّر عنه الشاعر العربي بقوله:
ملئا السنابل ينحنين تواضعا والشامخات رؤوسهن فوارغ
ينبغي أن تتشكّل الحكومة بمواصفات تتفق وآمال الناس وطموحاتهم ولو كان تشكيلها لفترة قصيرة. فالفائدة التي سيجنيها "الكل الفلسطيني" من تشكيلها بالمعايير السليمة أعظم بكثير مما سيجنيه أي فريق من مكاسب جزئية. وباختصار شديد، ينبغي أن يكون معيارنا عند انتقاء الوزراء في حكومة الوفاق: القوة المشهودة في العمل، والأمانة المعروفة في الأداء، مصداقا لما ورد في القرآن الكريم {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين}. صدق الله العظيم
واقرأ أيضاً:
وعد عباس ووعد بلفور في نوفمبر / خابت حسابات القيادة الإسرائيلية / يقولون في إسرائيل: نتانياهو أرنب / لنا دولة ولهم الأرض / صاروخ بدرساوي! / باب الشمس قرية كرامة ووحدة