ثورة سلمية محمية3
في ديننا أحكام قد تبدو نوعاً من المثاليات، لكنها شرع من العليم الحكيم، لها غاياتها في تحقيق المصلحة لنا ودفع المفسدة، ولن يكون ذلك على حساب أسر الشهداء ولا المصابين ولا المغتصبات، بل يجب تعويضهم بسخاء من مال الأمة بعد الإطاحة بالنظام، التعويض المالي والمعنوي ماعدا الانتقام لهم، ويترك الانتقام للمنتقم الجبار الذي لا يضيع حقاً لأحد، وعلينا أن ننظر ونعتبر بالتاريخ القديم والحديث، لنرى إلى أي حد تحققت العدالة للذين قتلوا وعذبوا واغتصبوا خلال الحروب بعد أن هُزم المعتدون وحوكم بعضهم.
هل يمكن اثبات التهم عليهم إن أنكروها؟ هل هنالك شهود عدول عليهم؟ هل هنالك أدلة وقرائن محفوظة تثبت جرائمهم؟ إن كنا نزعم أننا سنحاكمهم محاكمات عادلة المتهم فيها بريء حتى تثبت إدانته فلن نستطيع إثبات أكثر من واحد بالألف أو واحد بالمئة على أكثر تقدير من تلك الجرائم. لنكن واقعيين ولنتأمل هل تم القصاص لكل الضحايا في البوسنة والهرسك أو في رواندا، مع أن محكمة دولية تولت محاكمة المسؤولين عن تلك الجرائم؟ صدقوني ليست إلا عدالة رمزية لا تشفي الغليل على الإطلاق، وكما قلت سيكون ثمن الإصرار عليها باهظاً من أرواح ضحايا كان يمكن إنقاذها وتجنيبها القتل أو الإصابة أو الاغتصاب.
في ديننا حتى المجرمون قطاع الطريق لا يلاحقون بما ارتكبوا من قتل أو سرقة أو اغتصاب، إن هم تابوا من قبل أن يقعوا في قبضة الدولة. هذا واضح في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} { سورة المائدة}.
وقد اجتهد كثير من علماء الأمة في تفصيل ما يسقط عن هؤلاء وما لا يسقط عند توبتهم قبل القدرة عليهم، لكن الإمام الشوكاني وهو من أهم فقهاء الأمة أخذ بظاهر الآية فهو يقول في فتح القدير قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال، وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة، والحق الأوّل (أي الحق أنها تسقط كلها). وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية، كما يدل عليه ذكر قيد {قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ}.
وقال الطبري في تفسيره: {عن عامر الشعبي أن حارثة بن بدر خرج محارباً، فأخاف السبيل، وسفك الدم، وأخذ الأموال، ثم جاء تائباً من قبل أن يُقدر عليه، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته، وجعل له أماناً منشوراً على ما كان أصاب من دم أو مال}.
وقال أيضاً: {حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، وتوبته من قبل أن يقدر عليه: أن يكتب إلى الإمام يستأمنه على ما قتل وأفسد في الأرض: "فإن لم يؤمني على ذلك، ازددت فساداً وقتلاً وأخذاً للأموال أكثر مما فعلت ذلك قبل". فعلى الإمام من الحق أن يؤمنه على ذلك. فإذا أمنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام، فليس لأحد من الناس أن يتبعه، ولا يأخذه بدم سفكه، ولا مال أخذه. وكل مال كان له فهو له، لكيلا يقتل المؤمنين أيضاً ويفسد. فإذا رجع إلى الله جل وعز فهو وليه، يأخذه بما صنع، وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس. فإذا أخذه الإمام، وقد تاب فيما يزعم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يؤمنه الإمام، فليقم عليه الحد}. أي إن ادعى أنه تاب من قبل أن يقبض عليه لا يؤخذ بكلامه، ما لم يكن أعلن توبته قبل القبض عليه وأرسل للإمام أي الحاكم يعلمه بتوبته ويستأمنه}.
إذن من قتل نفساً واحدة بلا حق كان في الإثم كمن قتل الناس جميعاً، ومع ذلك من تاب من القَتَلَة قطاع الطريق وقد قتل قبل توبته العشرات من الأبرياء، من تاب منهم قبل أن نقدر عليه ونأسره، وكنا متأكدين من ذلك، سقط عنه في الدنيا المسؤولية والمحاسبة على ما فعل، رغم أن ذلك يؤلم أهل المقتولين والمغتصبات والذين سرقت أموالهم، لكن هذا لا يعني سقوط العقوبة عنه عند الله، فالتوبة مهما كانت نصوحة وصادقة لا تسقط عن التائب حقوق العباد عليه، وهي لن تسقط عنه إلا إن هو أعادها لأصحابها أو هم سامحوه بها.
وهنا الحكمة واضحة من جعل هذا العفو القانوني الدنيوي عن جرائم بشعة جائزة للمجرم التائب، وهذا الحكم مقصور على المجرمين المسلحين المحاربين للأمة، التي هي المقصودة بقوله تعالى يحاربون الله ورسوله، فالله جل في علاه لا يحاربه أحد ولا يقدر أحد لا على نفعه ولا على ضره، إنما ما يكون لله يعود على الأمة، كما نقرض الله عندما نتبرع بالمال لفقراء الأمة على سبيل المثال.
الإسلام واقعي جداً وحكيم إلى أبعد الحدود، ومن يعلم حدود قدرة الحكومات على ملاحقة قطاع الطرق هؤلاء، وما تلقاه من صعوبة بالغة في القضاء عليهم واستئصالهم، وما يكلف ذلك من مال وأرواح تزهق في محاربتهم، لن يستغرب هذا الحكم الشرعي الذي شرعه الله، لا حباً بهم ولا رضىً بما صنعوا، بل ليشجعهم على التوبة والتوقف عن سفك الدماء وانتهاك الأعراض وترويع الآمنين. نترك لهم ما نهبوه ولانحاكمهم على ما ارتكبوه، مقابل أن يكفوننا شرهم ويتوقفوا عن إجرامهم، ولم يكلفنا الله أن نشق عن صدورهم لنتأكد هل توبتهم حقيقية وصادقة من القلب أم هي حيلة للتخلص من الملاحقة، المهم أن يعلنوا التوبة والعودة إلى حظيرة الأمة مسالمين لها يكفون أذاهم عنها من قبل أن يتم القبض عليهم، وأمرهم إلى الله بعد ذلك.
ومرة أخرى هذا الحكم له نفعه للأمة إن طبقته، بغض النظر عن كون هذا الذي يحارب الله ورسوله مؤمن أو كافر، لأن التوبة الواردة في الآيات لم تقل كما هو الحال في مواقع أخرى تحدثت عن التوبة، لم تقل إنهم تابوا وأصلحوا أو تابوا وأقاموا الصلاة وما شابه، وهذا يعني أن التوبة المقصودة هي مجرد توبتهم من سلوكهم الإجرامي.
مرة أخرى يجب تغليب المصلحة على العاطفة، ويجب تعويض من قتل أحد من أهله، ومن اغتصبت، ومن سرقت أمواله، وغير ذلك، التعويض السخي من مال الدولة، لأن القانون أسقط عن هؤلاء الملاحقة كي يشجعهم على التوقف عن المزيد من الإفساد في الأرض، وهذا لمصلحة الأمة ككل، وعلى الأمة أن تعوض المتضررين.
ليس الذين يحاربون الله ورسوله كما جاء في هذه الآيات، أقل سوءاً وإجراماً من الشبيحة والمخابرات وأعضاء الفرقة الرابعة وغيرهم من العسكريين الذين يدافعون عن النظام، ولسنا أقل حاجة من الأمة المسلمة في الأحوال العادية لنقدم الإغراءات لهؤلاء المجرمين ليتوقفوا يوماً ما عن إجرامهم. علينا أن نكون أذكى من النظام وأن نطبق شرع الله في هذه المسائل التي نواجهها حالياً لنفوز بمنافعها، ولا نترك هؤلاء أسرى للنظام لا أمل لهم في الانفكاك عنه، مع أننا نكرههم ونكره ما يفعلونه كل يوم من فظاعات وجرائم تقشعر لها الأبدان، لكن الإقلال من الجرائم التي يمكن أن يرتكبوها قبل أن ننتصر عليهم يستحق منا أن نؤجل الانتقام منهم، وأن نحيلهم إلى الله الذي لا تضيع عنده الحقوق.
حتى ينقذ الغربيون اقتصادهم المهدد بالانهيار طبقوا أحكام الإسلام دون أن يقصدوا ذلك، فنفعتهم، وحتى تنجح ثورتنا في تغيير واقعنا المأساوي في سورية علينا أن نطبق أحكام الله هذه، بغض النظر عن كون الذين سنطبقها بخصوصهم مؤمنين أو كفاراً، لا يهم، فهي ستنفعنا في كلتا الحالتين. ولا يهم أن نطبقها تعبداً أو من أجل المصلحة التي يمكن أن نحققها بتطبيقها، فعلى كلا الحالين ستتحقق المصلحة، وتبقى النية المخلصة شرطاً للفوز بالأجر والثواب من الله تعالى.
إننا إن قلنا: إن الأحكام المذكورة تُلزمنا بما يخص المؤمنين وتبقى لنا الحرية بما يخص الكافرين، فإننا بذلك نفقدها تأثيرها في طوائف السوريين الذين يخشون على مستقبلهم إن سقط النظام وصار للإسلاميين السنة سلطة جزئية كانت أو كاملة، وهم محقون في تخوفهم، إذ ما يزال بعضنا يعمم النصوص التي جاءت في المشركين العرب زمن البعثة لتشمل كل من نعتبره كافراً، مع أن صحابة رسول الله لم يطبقوها إلا على المشركين العرب في المنطقة التي فيها حالياً دول مجلس التعاون الخليجي، وهم لم يعتبروا اليمن مشمولاً بها رغم أن العرب منه جاؤوا قديماً.
كما أدعوكم لقراءة مقالاتي الخمسة السابقة عن الثورة السورية فقد بينت فيها كيف أن ديننا يتسع لمفهوم المواطنة الذي يتساوى فيه المؤمن والكافر، طالما أنهم مشتركون في وطن واحد وينتمون لأمة واحدة، ولا أحب أن أكرر هنا ما قلته هناك، لكنني أعيد التأكيد على أهمية أن تطمئن الطوائف في سورية على مستقبلها بعد زوال النظام، ولا بد من أن نبذل الجهد الصادق لننجح في تطمينهم وجذبهم إلى الثورة، لتكون ثورة لكل السوريين بمعنى الكلمة. ولن ننجح في ذلك إلا إن كنا صادقين فيما ندعيه، وإلا إن نحن أعدنا النظر في بعض الأفكار التي ورثناها من أسلافنا، فنعود إلى نصوص الإسلام نفهمها مباشرة كما فهمها الصحابة، ونراعي ما كان منها خاصاً بظروف تاريخية معينة، بخلاف القواعد الكبرى التي تنطبق على كل زمان ومكان، من مثل قوله تعالى: {لا إكراه في الدين}.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية5
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4