ثورة سلمية محمية8
وقد يقول قائل إن هذا الكلام فات أوانه وانقضى، والثوار يحررون كل يوم مناطق جديدة، حتى خرج فاروق الشرع يعرض لأول مرة تسوية تاريخية بين النظام والثورة، وهذا دليل واضح على أن النظام يشعر بالهزيمة والعجز، بعد أن كان متغطرساً مستكبراً لا يعترف لا بثورة ولا بمعارضة إلا على أنهم عصابات خارجة عن القانون وعملاء لدول متآمرة على سورية والسوريين، وقد يجادل هذا القائل فيؤكد مستيقناً أن النظام سيسقط قريباً جداً ولا مصلحة للثورة في التفاوض معه، وسيكون هو المستفيد من أي تفاوض أو حوار أو مرحلة انتقالية.
صحيح أنه سيستفيد من ذلك لكنه لن يكون المستفيد الوحيد، قد ينجح الثوار في السيطرة على تسعين بالمئة من الأرض السورية ومع ذلك لن ينهار النظام وسيبقى مصراً على قتل الناس وتجويعهم وتشريدهم وتدمير بيوتهم طالما لديه طائرات تقصف ومدفعية وصواريخ، وقد تطول الحرب لسنين وتنهار الدولة لكن النظام مستمر، فلا المناطق المحررة يعيش الناس فيها حياة طبيعية، ولا المناطق التي يسيطر عليها النظام يمكن تطهيرها منه لطي صفحته إلى الأبد، وهذا يعني أن تطول معاناة الناس وفقرهم وتشردهم وجوعهم وبردهم وتعطل مصالحهم، فلا يكون هنالك حسم يمكنهم من استئناف حياة طبيعية، بل يستمر القتل والتدمير، ويعود الناس لحياة القرون الأولى الشاقة بلا ماء ولا كهرباء ولا وقود للتدفئة أو للسيارات ولا غاز لطهي الطعام ولا مدارس ولا جامعات ولا تجارات ولا صناعات، فيشقى الناس ويرهقون دون أمل بحسم قريب.
عندما يهدد حسن نصر الله أن المعارضة لن تنتصر بالسلاح وحده فهو يتحدث عن احتمال قائم بل برأيي هو الغالب، حيث ستصل انتصارات الثورة العسكرية إلى حد تتوقف عنده ويستعصي النظام على القضاء عليه ويبقى متحصناً بمناطق قليلة ينطلق منها ليقصف ويدمر ويقتل، وحيث يمنع عن المناطق المحررة كل ما يتحكم به من أرزاق وحاجيات لا غنى للناس عنها في هذا الزمان.
كل خوفي أن ننساق وراء رغبتنا بالتخلص الكامل من النظام وكل ما له به صلة، وننساق وراء أحلام غير واقعية أننا بالسلاح القليل الذي بين أيدينا سنقضي على النظام قضاءاً مبرماً ونستأصله استئصالاً جذرياً، فنرفض أي تفاوض معه ونستمر في القتال إلى أمد لا نعلم متى ينتهي.
إن نجاحات الثورة المسلحة متعاظمة يوماً بعد يوم لكنها ستبلغ مداها الأقصى يوماً ما دون أن يسقط النظام، اللهم إلا إذا تدخل الغربيون كما تدخلوا في ليبيا، وهو ما لا يبدو وارداً حتى الآن والذي قد يكلفنا استقلالنا أو وحدة دولتنا وربما التنازل عن أرضنا المحتلة، ثمناً لنصرتهم لنا.
قال تعالى في سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} أي أننا مدعوون من المولى تعالى أن نتجاوب مع أي ميل لدى العدو للسلم ما لم تكن خدعة ومكيدة، وإننا إن جنحنا للسلم وفرضنا شروطنا أن لا تدخل القوات الأسدية بكافة مسمياتها مناطقنا الآمنة وأن يستأنف النظام تزويد هذه المناطق بكل ما يمنعه عنها من مقومات الحياة المعاصرة، وعلى أن لا يقصفها لا بطائراته ولا بصواريخه، ونرضى بمرحلة انتقالية يتم فيها نقل السلطة إلى حكومة منتخبة ديمقراطياً، ولا نلاحق مجرمي النظام قضائياً بل نعطيهم الأمان حتى لو رغبوا في البقاء في سورية لكن لا يوكل إليهم شيء من الوظائف، فإننا إن فعلنا ذلك ولم نتأخر فيه قطفنا ثمرة الانتصارات العسكرية التي حققتها الثورة، أما إن كابرنا على أمل أن نفوز بكل شيء فالأغلب أننا سنضيع هذه الثمرة وندخل في حالة ركود قد لا تنتهي إلا بالتقسيم أو بالمجاعات.
بدأنا ثورتنا سلمية وكنا نتمنى أن تبقى سلمية ولم نكن نتوقع أنها ستنجح في الإطاحة الجذرية بالنظام، وعلينا رغم الشهداء الكثيرين أن نرضى بمثل الذي كنا سنرضى به لو بقيت ثورتنا سلمية، نعم نرضى به رغم الشهداء والجرحى والمغتصبات والمشردين، لأننا نريد أن نحقن الدماء وننهي معاناة الأهالي ونعود للبناء والإصلاح ونحتسب كل ما أصابنا في سبيل الله دون أن يسقط حق المتضررين بالتعويضات السخية من مال دولتنا الجديدة.
إن التغلب على عواطفنا والتصرف بحكمة وصبر ورحمة وغفران سيمكننا من تحقيق ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة وسيمكننا من حقن الدماء وتوفير المعاناة على ملايين السوريين. علينا أن نتذكر أننا لسنا نحن والنظام وحدنا نتصارع، بل هنالك قوى دولية عديدة تتدخل لتحقيق مآربها ومصالحها وهي لن تسمح لنا أن ننتصر الانتصار الكامل الذي نتمناه.
دماء الشهداء لم تذهب هدراً، إذ لولاها لما قامت ثورة في سورية، فجرائم النظام وحمقه دفعا السوريين إلى الثورة وهذا كسب عظيم ما كنا نحلم به قبل سنتين. اقطفوا ثمار انتصارات ثورتنا بالتفاوض والمساومة مع استمرار الضغط على النظام لانتزاع أحس ما يمكن انتزاعه منه من تنازلات، واحرصوا على بقاء الدولة وعلى عودة أهالينا إلى الحياة الطبيعية، ولا تستعجلوا تحقيق الأهداف التي تنادون بها، فحتى الثورة الفرنسية احتاجت إلى مئة عام من الكفاح بعدها لتتحقق أهدافها تحققاً فعلياً في الواقع.
اقبلوا بالحلول التي تنهي هذه الأزمة وتريح السوريين مما يعانون منه الآن، فليسوا كلهم مثلكم يسعون إلى الجنة من طريق الموت في سبيل الله، بل هم يريدون العيش الكريم والسعي إلى الجنة بالطرق الأخرى التي شرعها الله لهم، هم يريدون الحياة لأنفسهم ولأولادهم وهذا مطلب مشروع وفطرة فطر الله الناس عليها، فلا تضيعوا فرصة استعادتهم للحياة الطبيعية، وبعد كل ما جرى فإن الساعة لن ترجع إلى الوراء ولن يقبل هذا الشعب الحر أن يعود إلى الذل والهوان، فلا تخافوا إن جنحتم إلى السلم أن تندموا بعدها، ولا تظنوا أن الثورة في مصر وتونس واليمن كانت مخطئة عندما رضيت بالتغيير الجزئي، فإن ما حصلوا عليه دون الدماء التي أريقت عندنا والملايين التي تشردت أو جاعت أو عانت برد الشتاء القارس بلا جذوة نار تدفئهم لهو كسب رائع وكبير وما هو إلا جيل واحد وتتحقق لهم أكثر أحلامهم إن شاء الله.
اذكروا دوماً دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم لنا إلى الرفق في كل أمورنا وتنفيره لنا من العنف في كل صوره، روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ. وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ. وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ».
وختاماً لا بد لنا لتنجح ثورتنا وتحقق ما نريده نحن لا ما يريده النظام أو يريده أعداؤنا من أن:
٠ نحافظ على الدولة في سورية ونميز في كفاحنا بينها وبين النظام الذي نسعى للإطاحة به.
٠ نحافظ على وحدة السوريين كأمة لا يفرق بين مكوناتها عرق أو دين أو لغة، فلا نثير ما يفرق طوائف السوريين ويحولهم إلى إخوة أعداء.
٠ نحرص على تخفيف معاناة الأهالي ما استطعنا فنحن لا ندري كم ستطول هذه المعاناة ومتى ستجعلهم ينقلبون علينا.
٠ لتكن مطالبنا واقعية ولنرضَ بالحلول الوسط حقناً للدماء وحفاظاً على وحدة بلدنا الحبيب. ولنعلم أن ما لا يتحقق لنا اليوم يمكن أن يتحقق لنا في المستقبل إن مضينا في نضالنا لكن دون المزيد من الدمار والقتل والتشريد.
٠ أن نذكر أن أول ما يقضى به يوم القيامة الدماء، سواء كانت دماء مؤمنين أو دماء كافرين، فالتي حبست هرة حتى ماتت جوعاً ستدخل النار، فكيف بنا إن قتلنا بشراً ولم نكن متيقنين أننا نقتله بحق بغض النظر عن دينه وطائفته.
٠ ولنذكر أن القتال الوحيد في الحالة السورية الراهنة الذي لا شك في مشروعيته وفي استحقاق الشهادة لمن يموت فيه هو قتال الدفاع عن النفس والأهل والمال والعرض، لأن قواعد الجهاد ضد أمة أخرى معتدية علينا لا تنطبق على قواعد الجهاد ضمن المجتمع الواحد والأمة الواحد مهما تنوعت مكوناتها.
٠ ولنذكر أن الهجوم ومبادرة الأعداء شيء حميد طالما كان عدونا من غير أمتنا، لكن ضمن الأمة الواحدة (أقصد الأمة السورية) لا يحل لنا إلا الدفاع عن أنفسنا وأعراضنا وأموالنا، ويكون أفضل الجهاد قولة حق عند سلطان أو حاكم جائر ظالم. وإن اختلاف مكونات الأمة السورية دينياً لا يلغى حق السوريين على بعضهم بعضاً بالتراحم والتعاون، مثلما لا يلغي اختلاف الزوجين في الدين حق كل منهما بالمودة والرحمة، حتى لو كان أحدهما بمنظور الآخر كافراً، كما تكون الزوجة المسيحية عند زوج مسلم.
٠ مهما كان كرهنا للنظام ولمن يؤازره كبيراً يجب أن يكون حبنا لسورية الموحدة أكبر، فلا ننزلق في الاعتقاد أن أي نتيجة ستكون خيراً من بقاء النظام، حتى لو كانت تفتيت ودمار البلاد وقتل العباد وتشريدهم، علينا أن نكون رحماء بأنفسنا وبباقي السوريين وأن لا نستعجل الأمور إلا إن ضمنا أن الثمن لن يكون فادحاً، ولنذكر أننا لا نستأذن الأهالي ونحن نزج بهم في أتون المعركة، لذا علينا بذل كل ما نقدر عليه لحمايتهم وتقليل مصائبهم بسبب الثورة، وإن كانوا في النهاية وعند انتصارنا سينتفعون بالنصر وزوال النظام من على صدورهم.
٠ لا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إخوتي السوريين الأحرار أحييكم وأعدكم أنني سأبدأ إن شاء الله بعد هذا المقال وخلال أسابيع بنشر مقالات التأصيل الشرعي للأفكار الجديدة التي طرحتها في مقالاتي الستة عن الثورة في سورية، لذا أرجو منكم الدعاء لي أن يعينني الله ويسددني ويهديني إلى الحق في كل ما أتناوله من قضايا، وجزاكم الله خيراً.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4