يتعرض المثقفون الداعون إلى المصالحة والدفاع عن المسار الديمقراطى في مصر إلى حملة تجريح وترهيب ظالمة وغير مبررة هذه الأيام. يحدث ذلك في وقت تموج فيه مصر بالانفعالات والمشاعر المنفلتة، التي لا سبيل إلى تهدئتها إلا من خلال الدعوة إلى المصالحة وإلى الالتزام بقيم الديمقراطية وأدواتها. أقول ذلك بعدما طالعت كتابات عدة عمدت إلى محاولة خنق تلك الأصوات وممارسة مختلف الضغوط لإسكاتها، وقد وصل الأمر بالبعض إلى حد السخرية من فكرة المصالحة وتسفيه الكلام عن الديمقراطية وسيادة القانون وكيل المديح للعسكريتاريا، واعتبار أي نقد للعسكر ونظامهم بحسبانه نوعا من المروق السياسي والضلال الذي يورد أصحابه موارد التهلكة. إلى غير ذلك من صور التخويف والهجاء التي قد نفهمها حين تصدر عن شباب متحمس ومتهور، لكننا نستغربها حين تجئ من أناس نضجوا واحتلوا مواقع متقدمة في الساحة الإعلامية.
وسوف ندهش أكثر حين نعلم أن الضغوط وعمليات الترهيب التي تتعرض لها الأصوات العاقلة في الساحة الإعلامية لا تصدر فقط عن نفر من المهيجين والمحرضين الإعلاميين، ولأنني سمعت من بعض أصحاب تلك الأصوات شكوى من ضغوط تمارس عليهم من بعض الأجهزة الأمنية التي استعادت حيويتها ونشاطها في أعقاب التطورات الأخيرة. أما المحزن في الأمر فهو أن شحن الرأي العام بمشاعر الكراهية والقطيعة استخرج من كثيرين أسوأ ما فيهم، حتى أصبح أولئك العقلاء يتعرضون بين الحين والآخر لسيل من الشتائم والبذاءات على شبكة التواصل الاجتماعي التي تستبيح كل شيء فيهم، من كرامتهم إلى أعراضهم.
أحد الزملاء عمد إلى تقريع وتجريح أحد هؤلاء الليبراليين العقلاء فكتب يقول إنه «يصدع رءوسنا بالحديث عن الديمقراطية وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة وغيرها من سلع النخبة واكسسواراتها، بينما يصر تلميحا وتصريحا على معاداة الحكم العسكري، ويناضل بكل ما أوتي من فذلكة وتقعر للحيلولة دون حتى اقتراب الجيش من دائرة السياسة». الذي لا يقل غرابة عن ذلك أن زميلنا المحترم استنكر من صاحبنا أنه رفض إقصاء الإخوان، كما رفض «خطابات التشفي والكراهية ومقولات الثأر والانتقام بحقهم، فضلا عن تحفظه على إغلاق محطاتهم الفضائية» وفي الختام قال زميلنا عن الإخوان: لا يمكن دمجهم في ثقافة أو مجتمع. ولا يمكن لعاقل أن يمد يده إليهم لأنهم دعاة هدم وتخريب ومحترفو تآمر وخيانة، نحن لا نريدهم بيننا. لا نريد لهم أن يتناسلوا في أحضاننا كالحشرات السامة. ولا ينبغي أن تكون محاكمتهم عادلة، لأن عدلهم ليس عدلنا وإسلامهم ليس إسلامنا». جريدة الوطن 7/7.
أطلت في هذا الاقتباس لأنه يكاد يجمع في مقالة واحدة ما فتئ آخرون يرددونه في مقالات متناثرة عبرت عنه عناوينها التي منها: نعم لإقصاء المتأسلمين ـ الفاشيون الخونة يخرجون من دنيانا نهائيا ـ قل تأهيل ولا تقل مصالحة وطنية.. الخ. الطريف أن أحد المخاصمين استهل هجائيته بقوله: لن نتسامح مع الخونة والقتلة والمتآمرين، لكننا يجب أن نفتح صدورنا للجميع مع المختلفين معنا في المواقف والآراء (؟!) ـ وبعد أن كتبت واحدة من المتحمسات داعية إلى محاكمة الدكتور يوسف القرضاوي، زايدت عليها زميلة أخرى قائلة عن الدكتور محمد بديع مرشد الإخوان إن الإعدام بحقه لا يكفي! ـ بالتوازي مع ذلك، فإن زميلا آخر اكتفى في دعوته باستعادة قصيدة «لا تصالح» التي كان قد كتبها الشاعر أمل دنقل في حث السادات على عدم مصالحة الإسرائيليين، واعتبر أنها مناسبة لإجهاض فكرة المصالحة مع الإخوان.
حملة التخويف والترهيب والاستئصال لا تقف عند سيل التحريض والسباب والإهانات التي باتت تحفل بها وسائل الإعلام المصرية، ولكنها تتوازى مع إجراءات أخرى، منها منع كتاب الإخوان من النشر في الصحف القومية، وإغلاق بعض القنوات الدينية، والتوسع في اعتقال قيادات الجماعات الإسلامية، وحجب أخبار المؤيدين للدكتور مرسي، وتبني وجهة نظر السلطة والأمن في عرض الأحداث الجارية التي كانت منها مذبحة الحرس الجمهوري، بل وصل الأمر إلى حد توجيه الاتهام إلى قناة الجزيرة والدعوة إلى مقاطعتها وطرد مدير مكتبها من المؤتمر الصحفي الذي تحدث فيه ممثلا وزارتي الداخلية والدفاع، لمجرد أن القناة عرضت وجهة النظر الأخرى إلى جانب وجهة نظر الداخلية في شأن الأحداث الجارية.
حين بحثت عن تعريف يلخص ما نحن بصدده، لم أجد سوى مصطلح الفاشية الجديدة، التي أتعس ما فيها ليس فقط وقوعها، ولكن تهليل البعض لها وحفاوتهم بها واأسفاه.
نقلا عن "الشروق" المصرية
الأربعاء 1 رمضان 1434هـ - 10 يوليو 2013م
واقرأ أيضاً:
فصل في إرهاب الدولة / رائحة العداء للفلسطينيين!!! / الدم الفلسطيني المنسي / حين اعتذرت إسرائيل لتركيا / تمرد وتجرد وتشرد