لم تحتمل المعدة المصرية الهوية الإسلامية الحارة الملتهبة المليئة بالشطة، لم تحتمل ما يدعو إليه صفوت حجازي وعاصم عبد الماجد وطارق الزمر ومحمد الظواهري والشاطر والبلتاجي وعبد الله بدر ووجدي غنيم وغيرهم...، وأيضا لا تحتمل تلك المعدة الهوية العلمانية المسمومة التي تحدث عنها وبشر بها حلمي النمنم وفؤاد زكريا وفرج فودة وسلامة موسى وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم.
كلا الطرفين يمثل هوية غريبة على المزاج المصري، ذلك المزاج الذي تشكل عبر آلاف السنين من ديانات متعددة طبقة فوق طبقة وعلى أرض منبسطة وفي مناخ معتدل صيفا وشتاءا، وفي موقع جفرافي يتوسط العالم القديم والحديث. هذا المزاج الذي لم يدركه حلمي النمنم حين قال: "إن مصر ليست متدينة بالفطرة بل هي علمانية بالفطرة"، ونادي بإقصاء تيار الإسلام السياسي بكل فصائله والإجهاز عليه في هذه الفرصة التاريخية وعمل دستور يعكس الهوية العلمانية لمصر كما يتصورها.
لقد رفضت مصر محاولات الإقصاء التي مارسها بعض غلاة الإسلاميين، وهي اليوم ترفض محاولات الإقصاء التي يتنادى بها بعض غلاة العلمانيين، لأن كلاهما لا يمثل العدل ولا يمثل القانون الكوني ولا يتماشى مع الفطرة الوطنية السمحة ولا ينسجم مع ألوان الطيف المصري المتعددة والمتداخلة.
هذا المجتمع المصري له متوسط حسابي يرفض من يخرج عنه، ولديه منطقة خضراء يسمح لمؤشر الهوية أن يتحرك في إطاره، فإذا جاء من لا يفهم هذا المتوسط الحسابي وحاول سحب المؤشر إلى المنطقة الحمراء فإن العقل الجمعي المصري يوقفه ويبعده عن موقع الصدارة والتأثير وربما يعاقبه بالحجر.
مصر الآن في صراع هوية على مستوى القوى السياسية الظاهرة على السطح والمشتبكة بالكلمة والسلاح، أما على المستوى الأعمق للناس فثمة هوية راسخة مستقرة متكاملة مشبعة بثقافة دينية متعددة الطبقات وثقافة شعبية ممتدة عبر آلاف السنين وعادات وأعراف تحكم الحياة اليومية مهما اختلفت الأنظمة والحكومات والدساتير، وهذه هي "مصر العميقة" التي تبتلع كل ما يطفو على سطحها من زبد وفقاعات، وتلفظ كل الهويات المجتزئة والمختزلة والمتطرفة، لتبقى في النهاية ثابتة مستقرة محافظة على هويتها المعتدلة الهادئة البسيطة العميقة التي حددتها عوامل التاريخ والجغرافيا والتركيبة النفسية الرافضة للتشوه والانحراف والتطرف والشطط.
وكل ما نحتاجه الآن في هذه المرحلة هو فهم هوية مصر العميقة (وليس الدولة العميقة) والتعبير عنها في دستور متوازن وفي خريطة سياسية تمثل الجميع بصورة مرنة ودينامية وسلطة سياسية خاضعة للتبادل عبر صناديق الانتخابات الشفافة والتي يجب أن نعود إليها في أقرب وقت ممكن حتى يتصرف من خلالها التوتر القائم في الشوارع والميادين.
واقرأ أيضاً:
رسالة إلى العقلاء في الإخوان: لا تحملوا السلاح ولا تحرقوا مراكبكم / صناعة الدكتاتور / الكلمة تقتل.. والكلمة تحيي