سواء اتقفت أو اختلفت مع ما يقدمه باسم يوسف، إلا أنه يمثل عبقرية مصرية ساخرة وناقدة وإصلاحية، وقد تفجرت تلك الموهبة العبقرية مع ثورة 25 يناير (التي يجري التعتيم عليها وتشويهها في هذه الأيام لحساب 30يونيو و3 يوليو)، حيث بدأ بانتقاد المناوئين للثورة وفضح تناقضاتهم العبثية، ثم استمر في حقبة الرئيس مرسي وكان نقده للرئيس لاذعا ومؤثرا وأحيانا جارحا، ولا نبالغ إذا قلنا أنه كان أحد أهم أسباب عزل مرسي لأن ما يقدمه أثر بقوة في شعبيته وقبوله لدى فئات عريضة من الشعب مما سهل على إزاحته من منصبه.
ومن هنا يأتي إيقاف برنامج باسم يوسف عملا مستهجنا، إذ كان له دور كبير في وجود من هم في السلطة الآن على كراسيهم، والرجل ليس طابورا خامسا ولا خلية نائمة، بل هو مصدر ابتسامة وبهجة وحيد في حياة المصريين في الوقت الحالي حيث لا توجد مسارح في الوقت الحالي ولا توجد مباريات لكرة القدم، بل توجد أزمات معيشية وأزمات مرورية وأزمات سياسية عديدة تجعل الحياة المصرية خانقة وقاتمة ومقبضة، وزادت حالات القلق والإكتئاب بشكل ملحوظ، فكان باسم أشبه بضحكة وسط ركام الأحزان، فهل استكثروها على المصريين الذين رضوا بعودة الطوارئ ورضوا بالحظر ورضوا بضيق العيش أملا في الاستقرار المنتظر.
وبرنامج باسم يوسف ليس مجرد برنامج كوميدي ساخر، وإنما أصبح منفذا للمصريين للتعبير عما يجيش في صدورهم، فكأنه يقرأ الناس ثم يعكسهم في مرآة يرون فيها أنفسهم بكل تناقضاتهم فيضحكون وينتبهون أو يثورون على سلبياتهم أو سلبيات رموزهم وقادتهم، لذلك أصبح هذا البرنامج ثورة مستمرة على تشوهات الذات المصرية (رغم ما به من تجاوزات في بعض الأحيان). وقد تحمله الرئيس مرسي على الرغم من تأثيره الرهيب على شعبيته وعلى صورة التيار الديني بشكل عام، وحتى حين ذهب للقضاء لم يتوقف البرنامج.
والآن حين يخرج بيان من قناة CBC يعلن وقف البرنامج بعد حلقة الأسبوع الماضي التي تعرض فيها باسم لحالة الانبهار الزائدة بشخص السيسي لدى قطاعات من الناس، فهذا أمر خطير لأنه يعكس حالة من الضيق بالرأي الآخر والقلق من النقد حتى ولو كان في ألطف حالاته، ولسنا ندري أهذا قرار من إدارة القناة أم قرار أمني أم قرار سلطوي أعلى أم استجابة لضغط شعبي جارف، ولكن في النهاية نحن أمام حالة من التقهقر للوراء في مسألة الحريات تثير مخاوف عديدة وتؤكد عودة التغول والتوحش الأمني والسلطوي الذي قامت ثورة 25 يناير لإزاحته.
وباسم يوسف لم يخطئ فيما تعرض له إذ أن ثمة حالة من الانبهار الشديد بشخص الفريق السيسي والمبالغة الضارة في تمجيده وتعظيمه تضر به هو شخصيا وتجعل علاقة الناس به غير سوية، إذ ينظرون إليه بقدر كبير من التقديس الذي لا يقبل النقد ويرفعونه فوق مستوى البشر، ويسلمون له عقولهم ووعيهم وإرادتهم ومصيرهم وينتظرون منه صنع المعجزات بالنيابة عنهم، ثم إذا تعثر أو فشل ينقضون عليع كما انقضوا على زعماء من قبله، فالمصريون لديهم القابلية لتقديس الزعيم ورفعه إلى عنان السماء ثم تأتي لحظة ينفونه (كالملك فاروق الذي عشقوه في بداية عهده) أو يورطونه في زعامة متضخمة (كما فعلوا مع عبد الناصر) أو يقتلونه كما فعلوا مع السادات أو يخلعونه (كما فعلوا مع مبارك)، أو يعزلونه (كما فعلوا مع مرسي)، أي أن علاقة المصريين بزعمائهم ورؤسائهم علاقة غير سوية في أغلب حالاتها، تبدأ بالإنبهار والتقديس وتنتهي بالنفي أو القتل أو الخلع أو العزل. فإذا انتقد باسم يوسف هذا السلوك الهوسي الانبهاري لدى المصريين تجاه شخص بعينه يصبح جزاؤه المنع والحجب؟.
واضح أن القرار متعدد الجهات، فقد تصدره القناة لاعتراضها على نقد السيسي الذي تؤيده بعنف، وقد تصدره جهة سلطوية أمنية أو عسكرية لا تحتمل حرية التعبير وتعتبر الشخصيات العسكرية فوق النقد حتى لو مارست دورا سياسيا، وقد يكون القرار مدفوعا بغضب شعبي صادر من المبهورين والمتيمين والمقدسين لشخصية السيسي والذين يضعون صوره في كل غرفة في بيوتهم وفي قلوبهم. وليس عيبا أن يحب الناس شخصا لشيء فعله يرونه في صالحهم ويقدرونه، ولكن المشكلة أن يجعلوه قديسا فوق النقد، ففي عالم السياسة وإدارة الدول لا يوجد أحد فوق النقد، بل النقد ضروري لتصحيح المسيرة وتلافي الأخطاء وتحجيم تضخم الذات بالمدح والتبجيل والتقديس.
إن وقف هذا البرنامج أو غيره يشكل علامة سلبية خاصة أن ملايين من المصريين في الداخل والخارج ينتظرونه ويتابعونه كل أسبوع وأيضا ملايين العرب، وهو مصدر تنوير وإصلاح وبهجة وسعادة لهؤلاء الملايين، والأكثر من ذلك أن ما حدث يعطي رسالة بأن سقف الحرية قد انخفض إلى حد كبير، وسيذكر الناس بالقنوات الدينية المغلقة وبآلاف المعتقلين دون محاكمة حتى الآن وبآلاف القتلى في أحداث الشهور الأخيرة وبالحظر والطوارئ، وهذا سيؤثر كثيرا في شعبية وقبول النظام الحالي (حتى ولو كان مؤقتا)، ويعطي الفرصة لتنامي معارضة قد تتشكل في صورة موجة ثورية ثالثة إذا استمر التغول الأمني والتحكم السلطوي وقمع حرية التعبير حتى ولو كان تحت مظلة مكافحة الإرهاب.
واقرأ أيضاً:
التعليق: يعز عليّ أن يقوم د. وائل أبو هندي إعادة نشر مقالات د. محمد المهدي بعدما ظهر تأييدة للانقلاب بشكل فج وظهر ذلك جلياً في تحليلاته لحوار ياسر رزق بالمصري اليوم الذي أجراه مع السيسي .. وها هو الآن يدس السم في العسل من خلال مقاله عن باسم يوسف .
.. أعلم يا دكتور وائل عمق العلاقة التي بينك وبين الدكتور مهدي .. لكنه مشارك في الانقلاب ويداه ملطختان بدماء القتلى والحرقى.
..
أرجو رفع المقال من الموقع