دخلت عليّ في عيادتي سيدة نحيلة حزينةُ الوجه في الأربعين من عمرها.... قالت منذ شهرين لدي مشكلتان مشكلة في نومي أني لا أنام بسهولة والأخرى مع الولدين، وذلك منذ وفاة زوجي.... قلت لها البقاء لله... قالت زوجي قتل... وتلقائيا بدا وقع كلمة قتل على وجهي... فبادرتني بقولها: في أحداث رمسيس جمعة مسجد الفتح.. بدا علي الانزعاج وقلت إذن قولي استشهد لماذا تقولين قتل!؟؟؟؟.... فاعتذرت... في بكاء طويل لا أدري إن كانت أدركت أني شاركتها فيه محاذرا أن تدري بي...... فتملكت نفسي بعون الله وإن أمسك جفناي الدمع هنيهة حتى استطعت مداراته... حتى تكلمت:
متأسفة قالت الناس يا دكتور... أسلم لي أن أقول مات أو قتل أما استشهد هذه فتستفز كثيرين... قلت لا حول ولا قوة إلا بالله...!!!، فاستطردت تخيل أنه كان لأول مرة في حياته ينزل للتظاهر... على إثر ما عايشناه في أحداث الفض في التليفزيون فنحن لم نشارك في الاعتصامات ولسنا من الإخوان وهو زوج مسلم ملتزم لم يشارك في أي أنشطة سياسية من قبل.... عكسي أنا فمنذ فترة طويلة وأنا أتظاهر.... حتى في أيام د. مرسي في التظاهراتت الفئوية كنت ناشطة ثم منذ عزل مرسي بدأت أنتظم في التظاهر فكان يمازحني يبدو أنك أصبحت إخوانية... لكنه يوم فض رابعة قرر أنه سينزل يوم الجمعة....
ابنه الأصغر قال له يومها لا تنزل يا بابا لو نزلت ستضرب بالرصاص! لكنه لم يستجبْ لابنه وإنما رد ضاحكا لقد تركت رجلين في البيت... ابنه هذا قال لي بابا انتحر لأنه كان عارف أنا قلت له ستضرب بالرصاص!....
وبعد لحظات من الصمت... استجمعت فيها بعض مشاعرها وأفكارها وتأملت فيها قدر الصعوبة التي يمكن أن يجتاز بها طفل الثمانية سنوات معضلة الانتحار الاستشهاد بينما المعتاد في الأطفال قبل سن 10 سنوات أنه أحيانا بل غالبا ما يكون مفهوم الموت نفسه غير مكتمل النمو تماما.... بعد لحظات من الصمت استكملت: هذا الولد يشاركني التظاهر وأشعر أنه يتحسن نفسيا جدا عندما يتظاهر -مثلي الحقيقة- ، لكنه مرتين قام بمحاولة تشريط يديه منن هنا وأشارت إلى مفصل الرسغ... ويقول أريد أن أستشهد... أروح لبابا! ترى هل يمكن أن يتمادى في هذا؟
أكتفي بهذا القدر من المشهد المأساوي الذي لا أعرف كم من زملائنا الأطباء والأخصائيين النفسانيين يسمحون به في عياداتهم ولا أعرف كيف يشعرون تجاه هذا النوع من المرضى الذين يرفعون رابعة وهم في كامل العقل والوعي والدعة...، لا أعرف كيف يشعرون ولا كيف يتصرفون، رغم علمي أنهم جميعا يعرفون كيف يجب أن يتصرفوا طبقا لإعلان مدريد متمنيا أن ينجحوا في ذلك، متسلحين بالتعالي على حالة الاستقطاب التي يعيشها المجتمع المصري.... ولعل طلب تطبيق معايير إعلان مدريد أضمن وأكثر عملية، من طلب تطبيق معايير الإنسانية التي –مع الأسف- ربما يحرم منها من نعتبرهم إخوان أو أعداء لما يسمى ثورة 30 يونيو، ....
لنا زملاء وأساتذة وصموا بعض الأفكار الشائعة بين أعضاء تيارات الإسلام السياسي بأنها أفكار وهامية مشتركة أو ضلالات مشتركة وقد وجب تذكيرهم بأن ما يقولونه ويمارسونه يتناقض مع ما تعلمناه منهم أو تعلمناه معهم!، فأحد أهم شروط تشخيص فكرة ما على أنها فكرة وهامية هو ألا تكون فكرة دينية يؤمن بها جماعة كبيرة من الناس ينتمي إليهم الشخص صاحب الفكرة، وإلا فليس صعبا أن توصف أي أفكار منتمية لأي جماعة دينية أو مذهب ديني بأنها أفكار وهامية أو ضلالات، ما يحدث هو سوء استخدام للطب النفسي،... ربما يبدو الكلام متأخرا في رأي البعض في الرد على هؤلاء... لكنني بعد ما رأيت من وصفات طبية لأطباء نفسانيين متدربين أخاف يوما من اعتبار الأفكارر المخالفة لخارطة الطريق أفكارا ذهانية تستدعي العلاج فأرى مراهقا يتناول مضادات الذهان التي وصفها طبيب نفسي لأنه يصر على أن أخاه مات شهيدا ويرفض في المدرسة أن يغني "تسلم الأيادي"!
ما كتبته ليس إلا نذرا يسيرا يسيرا من لقطات يجب توثيقها ولعلني أعود إليها بعد الدخول في جدلية الثورة العورة التي أكتب محللا لها.... ودون اتخاذ قدر الإمكان موقفا بعيدا عن الحياد المنطقي لأبدأ بالتساؤل عن ما أظهرته أحداث 30 يونيو 2013 لعين الناظر المحايد لمصر والمصريين؟.... هل ما ظهر هو ما تكشفه الثورات؟ أم شيء آخرر مختلف؟
كلنا يتذكر ما دار على ألسنة زعماء العالم وبعض مفكريه عن ثورة 25 يناير 2011 من مديح لمصر وسلوك المصريين -دون أن تدفع مصر لأحد ودون إرسال وفود لإقناع أحد بأن البطة ليست بطة-... ويتذكر كلنا كذلك ما كتب وقيل عن أخلاق الميدان التحرير، وتوحد المصريين...إلخ، ...
ترى لأي شيء تؤدي مقارنة ذلك بما أظهرته أحداث 30 يونيو... من شعب منقسم على نفسه... خرج ضد الرئيس الذي انتخبه الناخبون المصريون كمرشح لثورة 25 يناير بفارق ضئيل عن مرشح الثورة المضادة-.... إعلام متهافت كذاب وشعب يبدو مضحوكا عليه من نفس الذين ضحكوا عليه طويلا وتقريبا بنفس الطريقة القديمة.... مخالفةة واضحة لكل المفاهيم الديمقراطية المعتادة، وسلوكيات قمعية وحشية تجاه نوع من المواطنين المسالمين،... إلخ ما أفرط في إساءة وصفه خارج مصر -وذلك بالرغم منن الدعاية والرعاية المدعومة خليجيا وأخيرا أمريكيا!- وداخلها... هكذا يبدو شكل المصريين فهل امتدحه من المحايدين أحد؟ وحده العدو الإسرائيلي يمتدح!....
ما الذي أظهرته أحداث 30 يونيو؟ وزراء كاذبون.... استمروا من عهد محمد مرسي إلى الآن في مناصبهم وإعلاميون فاسدون، ورجال أعمال ذوي نوايا أهلٌ لأن يشك بها، خططوا ونجحوا... وكأن الشخص المخادع هو النموذج الناجح!.... مؤامرة مفضوحة المعالم يباركها أصحاب الأصوات العالية، ثم شعبٌ أكثر انقهارا من شعب مبارك يحاولونن تصويره على أنه في منتهى السعادة والرضا عن ما يحدث!.... لا يرى الناظر شيئا في الحقيقة مما يحب الناس عرضه للآخرين إلا إذا كان الناظر ساديا دمويا فاشيا يعتبر أيا من الأحداث –باستثناء ما لا أعلم في سيناء- التي تجري في مصر أعمالا بطولية مثل من يستحمرون الناس ليقنعوهم بأن وزير الدفاع بطل قومي حرر مصر من الاحتلال الإخواني!... والواقع أو ما يراه غير المصري من الخارج والمصري المعارض من الداخل هو أن القائم على أمر جيش مصر استخدم قوته ليغطي أحداثا ما تزال تثبت يوميا أنها إن صح وصفها بالثورة فإن ذلك يصح فقط عند نعتهاا بالمضادة، أي أنها ثورة ضد ثورة 255 يناير.
حين يتم إخراس كل الأصوات المعارضة ويصدم أغلب الناس في نماذج كانوا يقدرونها وهي تهوي قائلة بما لا يبدو مقنعا لأحد... وأخرى تصر على الكذب الذي تفوح رائحته وعلى تكراره حتى يصدقه قائلوه، وحين يظهر التباين صارخا في طريقة التعامل مع آلام الناس وبلاويهم... حين يفتقد ضحايا القتل أو الاعتقال أو تلفيق الجرائم أو الإصابات إلى تعاطف قطاع كبير من أهاليهم وجيرانهم وحين تتوالى فضائح التجسس والتسريب والفتاوى سيئة السمعةة والمخالفة لأبسط مبادئ الإنسانية.... باختصار وكي لا أطيل في ما هو مؤلم بحق أسأل كم هناك أشياء في سلوك المصريين منذ أحداث يونيو حزيران الأسود نحب أن نعرضها للناس لتبين شيئا طيبا يستحق أن يتصف به قوم قامواا بثورة.
الحقيقة أنه لا يوجد شيء إلا ما يدعيه مروجو الانقلاب من أن انحياز الجيش للشعب وكون هذا الجيش مستعدا لمواجهة ما يسمى الإرهاب الشيطاني الإخواني وجعل هذه المواجهة بمثابة بطولة يصل المغالون إلى تسويتها بتحرير سيناء من المحتل الإسرائيلي... وهناك في واقع الأمر مغالطة لا تغفر في هذا الكلام خلاصتها أن مصر لا يوجد فيها شعب وجيش ككيانين منفصلين بقدر ما يوجد رجال مدربون يملكون سلاحا وآليات قمع سواء كان انتماؤهم للشرطة أو للجيش وعادة ما يستخدم المتحكم في مقاليد الأمور كليهما لفرض النظام والأمن وتسيير أمور الدولة، وهؤلاء الرجال نسيجهم هو نفس نسيج المجتمع وحجمهم من الكبر بمكان، ولا شك في ذلك... لكن المهم هو أن نقاط التشابه والاختلاف بين أفراد الجيش أو الشرطة هي نفسها الموجودة في كل أسرة في مصر حيث هناك من يناصر الجيش مثلما هناك من يناصر الإسلاميين... باختصار لا يمكن إلا أن ينحاز الجيش ضد نفسه إذا انحاز لأيي من قطاعات الشعب، كل ما يمكن أن يحدث في مصر هو انحياز ممن بيده القوة إلى من يريد الانحياز إليه من فئات الشعب، أو من القوى الجماهيرية المتاحة.... أي أن ما يدعون الناس للافتخار به حقيقة ليس إلا كذبة!...
ودون دفاع عن الإخوان أو غيرهم فإن ما حدث في مصر منذ وصول محمد مرسي إلى الحكم وخاصة في الأسابيع الأخيرة السابقة للثلاثين من يونيو ثبت أنه مدبر بليل... وكثرة الشواهد والدلائل على ذلك تجعل الاستطراد في مناقشته بلا طائل... ثبت أن الكذب والخداع والتواطأ ينجح في النهاية في تغيير مسار البلد... وإلى أين... لا تسل.. (فأنا أجهل المصير على رأي كامل الشناوي أو عبد الحليم).... ما زلت أسأل وأتمنى على كل مخلص لمصر أنن يسأل نفسه ليكشف بنفسه وعقله، ما الذي كشفت عنه أحداث 30 يونيو ما الذي كشفته في النفسية المصرية وفي الوعي المصري وفي الشخصية المصرية وفي المرجعية الدينية للأزهر الشريف وما الذي كشفت عنه فيي سلوك الإنسان المصري في الشارع من حوله وبين زملائه في مكان عمله كل هذا مهم أن يسأل عنه وينظر فيه ويتفحصه قبل أن يقرر تسمية أحداث 30 يونيو ثورة أم عورة!
3/11/2013
واقرأ أيضًا: