ربيعنا العجيب الذي لا يعرف الفصول، وإنما ابتلعها فانتحر ، وتركنا حيارى نتخبط حول جثته الهامدة، التي مضينا نسكب عليها دماءنا لكي نطهّرها من الآثام، لكنها تزداد جُرما وتتجمع عليها آفات الخطايا. وربما يبدو صحيحا كل ما قيل ويُقال عن أعاصير تغيير الأنظمة في بلدان الوجيع العربي، لكن هذا الصحيح مأسور بقيود التبرير والإسقاط والإنكار والتخلي عن المسؤولية.
فما نأتي به يعبر على فهمنا للحياة وكأنها مثالية الطباع وسامية الأخلاق، وأن القِوى القائمة فيها ذات مبادئ وأعراف ومشاعر إنسانية نبيلة، وننسى أو نتغافل أو نتجاهل، أو لا ندري بأن التفاعلات الحاصلة في الأرض ومنذ الأزل محكومة بالمصالح وإرادة القوة المرهونة بمصادر الطاقة، أيا كان نوعها وأهميتها وفقا لحاجات العصور.
ففي القرن العشرين ومعظم هذا القرن، النفط هو المصدر الرئيسي للطاقة التي تعني القوة الاقتدار،وأن سلوك القِوى الإقليمية والعالمية مرهون بآليات امتلاكه والهيمنة عليها بأي وسيلة، لأن المهم والأهم هو الوصول إلى هذا الهدف المصيري. فلكي تتحكم بالدنيا عليك أن تمسك بمصادر طاقتها. ولكي تكون سيد العالم عليك أن تمسك بعنق العراق.
ولكي تجعل القِوى الأخرى تحت رحمتك عليك أن تهيمن على الخليج، وتقيد حركة وقدرات الدول النفطية التي لا تسمح لك بالتحكم بمصير نفطها. فمصادر الطاقة من الأولويات القصوى للدول الأقوى في الأرض، ولهذا فهي تبني سياساتها وتفاعلاتها وفقا لذلك، ولا يعنيها إلا الإمساك بالهدف. تلك حقائق تفاعلية قائمة معروفة وليست جديدة، وإنما ربما تكون منسية من قبل المجتمعات التي صارت تلهو بمكوناتها، وتنشغل بمسيرات انقراض ومتوالية إضعاف وتفتت وضياع.
فلو تأملنا حروب الدينا منذ أن عرفتها لتبين لنا بأنها كانت بفعل إرادة القوة الساعية لمصادر الطاقة، التي تتبدل مع الزمان لتطور حاجات الناس عبر الأجيال. ففي السابق كان مصدر القوة الاستحواذ على ما عند الغير من ثروات بشرية وحيوانية وزراعية ومعدات قتال بدائية معروفة، وفي عالم اليوم بقيت الطاقات البشرية مصدرا للقوة، وأضيف إليها العديد من الحاجات اللازمة للصناعة والحركة والإنتاج بأنواعه، وغيرها الكثير مما لا يخطر على بال، حتى أن العناصر النادرة في الجدول الدوري أصبحت موضع صراع وتنافس وقتال.
وكما ذكرت، فلا جديد في الموضوع، لكن العجيب هو سلوكنا الغريب، واستجاباتنا البليدة المدثرة ليس بالإذعان والخنوع، وإنما بالمساهمة الجادة والشديدة لتأمين متطلبات افتراسنا وامتلاكنا وتحويلنا إلى بضاعة منكرة في مزادات الضياع الأبيد. فما نقوم به يناهض مصالحنا الوطنية المشتركة، ويتسبب في تداعيات خطيرة يتم استثمارها من القوى الساعية إلى إحكام قبضتها على كل ما عندنا من ثروات ثقافية وفكرية وأخلاقية ومادية وتاريخية، وعقائدية، حتى تحولنا إلى أعداء أشداء لذاتنا وموضوعنا.
وهذا يعني أن العيب الحقيقي فينا، وليس في القوى التي تبحث عن مصالحها، مهما كان نوعها أو قربها وبعدها عن بلداننا. فعندما نلقي نظرة متفحصة على مجتمعات الوجيع العربي، تتضح صورة السلوك المنافي لمفردات المصالح الوطنية المشتركة، بل أن ما يجري ينكر الوطن والإنسان، ويتباهى بالكرسي الذي صار ملكا مشاعا لذوي المصالح والأهداف المرسومة.
فهل سنعرف مصالحنا ونعيد الاعتبار لوجودنا الوطني والإنساني، ونعمل سوية من أجل الحفاظ على وجودنا وهويتنا، قبل أن تدوسنا سنابك الوعيد، وتفترسنا أنياب التمزيق والإتلاف فتجعل المستقبل عصفا مأكولا؟!! فكيف نحسب قتالنا لبعضنا انتصارا على خصمنا؟!! أليس هذا سلوكنا؟!!
واقرأ أيضاً:
السقوط الثوري / الفوز للكرسي أم للوطن؟ / الشك الثوري / الأزمة الثورية / الانتخاب والانجذاب!!