ولكم في الانتحار حياة.. هكذا عنوان خاطرة كتبتها مصرية ممن صفعهم مصرع زينب المفاجئ، وهو ما يستحق وقفة وتأملا. زينب هي فتاة مصرية عشرينية من بنات 25 يناير تنقلت في رحلة بحثها عن انتماء وضمة ونسيج مجتمعي داعم بين الإخوان وحملة أبو الفتوح ثم قيل أنها انتسبت إلى حزب شبابي صغير اسمه التيار المصري، وكانت قريبة من دوائر الشباب الثوري، ممسكة بملفات ملتهبة منها ملف المعتقلات، وما يتردد عن فظائع ترتكب بحقهن يشيب لهولها الولدان!! مسيرة زينب القصيرة نسبيا تختصر وتكثف المسكوت عنه في الشأن المصري سياسيا ومجتمعيا وجيليا، وتلهم من يريد أن يفهم ويبحث ما جرى ويجري في هذا البلد الذي تتفحصه الأعين، وتتناوله الألسن شماتة أو فرجة، دون أن يشغل أحد نفسه بما يمكن تقديمه لعون أو دعم.. أمة في محنة!!
إذا حاولنا الاقتراب سنجد مباشرة من اكتفوا بالسباحة في المياه الضحلة قرب الشاطئ ليؤكدوا لأنفسهم أن كل شيء هو على ما يرام، وأن مصر بخير، ومحروسة من الأذى!! ومثلهم من تمادوا فتحدثوا عن تلك الإخوانية التي انتحرت، ومثلهم من قال: تركتنا فانتحرت!! أو من خاضوا في نقاش مقولات رائجة عن أن المنتحر يموت كافرا من عدمه، ومنهم أولئك الذين وجدوها فرصة للتنديد بمن يسارعون إلى الرفض والتكفير!! على عمق أكبر سنجد أولئك الذين صدمتهم الحادثة وراحوا يبكون على ما وصل إليه حال الشباب والثورة والبلد، وهم يرون أغلى ما فينا تذروه الرياح، أو تلقي به السلطات في مكان سحيق، كما يرون الارتباك العام والغيبوبة الحالية والعجز عن فصل الإنساني البسيط الواضح عن السياسي الملتبس عند البعض!
على عمق أبعد رأى آخرون أنفسهم في زينب، ورأوها فيهم، واستعادوا صعوبات المرحلة، وأوجاع الامتحانات المتوالية، وأعصابهم التي يشعرونها كأسلاك عارية لا تتحمل حتى اللمس!! يبدو المصريون غير مستعدين لاستقبال آلام الارتباك، والمخاض المتعثر، بينما ينكر آخرون الأمر برمته، ويعتبرونه مجرد حمل كاذب يخص أقلية منهم!!
يفتح موت زينب ملفات كثيرة تتعلق بنوعية التدين السائد في المجتمع، والذي لم يعد يتحمل أو يصمد في محنة الاختبار، بعضهم يتجه إلى الإلحاد، ومعدلات الانتحار في تزايد، وقطاعات كبيرة تتسلح بالإنكار، كما تلجأ قطاعات أوسع إلى أنواع المخدرات بشكل جنوني، والناس تتخارس عن الخوض في نقاش هذه الحقائق، وتفضل الحديث حول أسئلة أشد تفاهة وبؤسا، لكنها تبدو مقبولة وآمنة!!
ملف القبول الإنساني غير المشروط الذي تتباهى به المجتمعات الغربية، وهو من أبسط وأهم أسس بناء أي مجتمع، وقطعت فيه تلك المجتمعات شوطا لا بأس به، وتعلن أن إنجازه مستحيل دون تبني العلمانية، بينما الذين يولولون ضدها عندنا ما يزالون يتلكؤون في حسم هكذا ملف أساسي، وما يزالون يتفذلكون في انتحال صور وأشكال ودرجات من الإقصاء باسم الرب، فيظل الخيار النكد إما علمانية وقبول، أو لا علمانية ولا قبول!!
زينب التي تنقلت بين القبائل لم تحظ بشيء من القبول الضام، ولا التواصل المنجد، ولا المعنى العاصم من القفز إلى المجهول، أو إلى رحمة يعتقدها من يأس.. محض تخبط، كما يأس الكفار من أصحاب القبور!! المجتمع الذي يبدو متماسكا لدرجة الانحشار في الاختيارات الفردية اليومية البسيطة فهو يرمي إلى تحديد المأكل، والملبس، ومعايير السلوك لكل فرد، ويساومه على القبول بهذا الضغط أو الهجر والانعزال، هذا التماسك بدا لمن رأى مشهد زينب كالعهن المنفوش، والركام الضخم الذي يثقل الكاهل، لكن حقيقته هي كهباء منثور سقط حين هبت عليه رياح التحديات!!
غياب الحد الأدنى من المعرفة بعمل الدماغ، وقوانين العقل، وانعدام الخبرة والتجريب والتدريب في التعامل مع المشاعر خلال الأزمات، وانعدام الرؤية والدراسة لأحوال المصريين جميعا، والشباب خاصة، والانشغال عن هذا بترهات وأوهام وأساطير تضخها الأجهزة كل ثانية في عقول المصريين ومجالسهم فيعيدون إنتاجها في حواراتهم، وعلى صفحاتهم الخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي!! يرى البعض أن مقتل زينب سيكون فرصة لفتح نقاش حول هذه الأسئلة، والمصريون يرون أن السؤال لغير الله مذلة!! وربما.. لذلك.. يرى آخرون أن هذه الأسئلة ستظل معلقة كما كان جسد زينب معلقا في المشنقة التي رفعت نفسها بها فوق الأرض! ولو كان الصمت أجدى .. لاختارته.