يتضمن هذا المقال رؤية تخص صاحبه تكونت عبر مشاهدات وأخبار بعضها هو وحده مصدره!
حين نزل المصريون بالملايين إلى ميدان التحرير، وبقية شوارع البلد ومساحاته، ومن ثم انشغلت بهم الشاشات بحيث وصلت صورة هذا الحشد العظيم إلى كل بقعة، وبينما كان الكل منهمكا في خوفه أو ترقبه أو احتفاله... كنت أحدث نفسي بأن هذا المشهد المهيب لن يمر بسهولة.
كان المشهد يتضمن خرقا فارقا للسقف الذي استقرت عليه أمور السياسة في العالم المعاصر من حيث أن ديمقراطية التفويض والتمثيل عبر التصويت هي الخيار السلمي الوحيد أما الناس للتغيير، بحيث تتوزع أقطار الدنيا على منحنى ممارسة هذه الديمقراطية بين من يتمتع بمميزاتها ومن هو محروم منها، فإذا بجموع الناس تتجمع ليفكرون معا، ويعترضون، ويبدعون أشكالا من التعبير والتواصل تتجاوز أنماط التفاعل المتعارف عليها بين مواطنين إلى استعادة التواصل الإنساني الممتد والخلاق بين البشر!
هذا المشهد الذي تجلت فيه قوة الناس حين يجتمعون ويمارسون حياتهم اليومية معا في مجال عام يشكلونه برغباتهم المتنوعة والمشتركة خارج إملاءات السلطة وقوانينها فرض تساؤلات وطرح خيالا جديدا، وفتح أفقا مبدعا أمام الشعوب، ووضع نخب المتسلطين والمستكبرين في العالم أمام مأزق وجودي: (نكون أو لا نكون)!!
طوال فترة بقاء الناس في ميدان التحرير كان مجلس الأمن القومي الأمريكي في حالة انعقاد دائم، وتنوعت الأراء فيه بين مقترح تدخل الجيش لفض هذا التجمع بالقوة، مهما كانت الخسائر (كما سيحصل في اعتصام رابعة، لاحقا)، والمقترح الآخر كان بعدم المواجهة، بل ومسايرة إرادة الجموع دون صدام كبير بها، وحسم مسألة رحيل مبارك عن السلطة ثم إعادة ترتيب الأمور من جديد بعد خروجه!
بعد مرور عام، وفي المؤتمر السنوي لقسم التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة قدم أحد الباحثين ورقته (باحث إيطالي)، وكان من خلاصاتها كيف أن أجهزة السلطة والإعلام الغربية تعمل بدأب على خطة منظمة لحصر وتحجيم الربيع العربي بحيث يبدو حدثا محليا يطالب فيه الناس بالديمقراطية التي ينعم بها الغربيون!!
لكن الاحتشادات توالت من قبل هذا وبعده في اليونان، وأسبانيا، وإسرائيل، وأوكرانيا.. بل تكونت حركة "إحتلوا" في أمريكا وكندا وأقطار أخرى كثيرة لترفع سقف المطالبات السلمية، وتعيد النظر في مسألة تطوير الديمقراطية!!
تكونت بدايات صورة ذهنية جديدة عن العالم العربي وعن عالم المسلمين، وصار متاحا ومشروعا أن يسأل الغربيون عما يمكنهم تعلمه من خبرات وتجارب الربيع العربي الجديدة، وبشكل عام تشكلت ملامح انطلاقات جديدة على صعيد اصطفاف الناس -كل الناس- معا، في مواجهة السلطات -كل السلطات- وهذا يؤذن بتهديدات عميقة لأصحاب السطوة والسلطة والسلطان في كل العالم!
وبالتالي منذ أن كان الناس في الميدان كان لزاما على هؤلاء أن يعملوا بجد لإحباط هذا المسار، وتفريغه من محتواه، واستعادة خرائط البؤس، والنزاعات بين الناس لمصلحة استقرار التسلط، والهيمنة!!
يمكن رؤية ما حصل في بلدان الربيع من خلال هذا المنظور، وأحداث باريس، وما يجري من تداعياتها تأتي في نفس السياق، وتفاعل الأطراف المختلفة يكرس استعادة مسارات البؤس والعداء بين الشعوب لتصبح المعركة على أسس تصنيفات مشوشة ومربكة بين البشر، وليس المواجهة الواضحة التي بين الناس والنخب المستكبرة المتسلطة!!
تلتقي هذه النخب يوميا على المستوى المحلي، والإقليمي، وعلى المستوى الدولي يبدو محفل دافوس مثالا مهما (ينعقد الأربعاء الجاري لمدة خمسة أيام)!!
بينما لا يكاد الناس يلتقون لا محليا، ولا إقليميا، ولا دوليا، بل غالبا يتركون إدارة شئون حياتهم لأولياء أمورهم، ويفضلون البقاء في وضع المفعول به تحت شعارات تفرق بينهم، وتضعف صفهم، وتبدد قوتهم في صراعات بينهم مؤسسة على سوء فهم متبادل، أو فشل عميق في تبادل الأراء والأفكار، أو تفهم التنوع... فضلا عن استثماره!!
سيلتقي أهل محفل دافوس ليقررون خطتهم ويرسمون سياساتهم بينما أغلب الناس غارقين في جهلهم بأنفسهم، وبطبيعة التحديات التي تواجههم، والأفخاخ التي يتورطون فيها تباعا، وهم يحسبون أنفسهم يحسنون صنعا، أو يناصرون دينا مهددا، أو رسولا متهكما عليه، أو حرية رأي وتعبير تتعرض لهجوم من مواطنين آخرين!! بينما ما يتم فعلا هو التلاعب بالجميع، ضد الجميع.... لمصلحة نخب التسلط!
السبت, 17 يناير 2015
واقرأ أيضاً:
ألغام معركة الأمل / أحاديث الإسكندرية / متسع جديد للدهشة / زينب مهدي: صرخة وفرصة