في البدء وحتى لا نغرق في متاهة اللغة فتضيع المعاني لا بد من ضبط دلالات الألفاظ، ما أقصده بالإيديولوجيا ليس الدين، بل هي مجموعة من التصورات الجامدة المسبقة غير القابلة للنقد والتي تحكم رؤية أصحابها للواقع فتحول بينهم وبين التفاعل المباشر مع معطيات الواقع والخلوص من المقدمات المعلومة إلى نتائج طبيعية عبر التسلسل المنطقي.
فصاحب الإيديولوجيا لا يرى المعطيات السياسية الموضوعية التي تساعده في تكوين رؤية واقعية وإدراك حدود إمكاناته، بل يكون في خطاه مشدوداً إلى صورة ذهنية يظن أن انتصارها في الواقع حتمية تاريخية دون اعتبار لموازين القوى وسنن التدرج الطبيعي في صعود الحضارات وأفولها، والأيديولوجيا بهذا التعريف مناقضة أصلاً لروح الدين، إذ إن الدين يقيم بناءه على مخاطبة العقل والإقناع بالبرهان وتحريك الفكر، والقرآن يقرع بشدة أولئك الذين يتبعون الهوى: "إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس"، واتباع الظن يعني أن يضع الإنسان مجموعةً من التخرصات والأمنيات التي تعتمد على رؤية أهوائية رغائبية ولا يسندها شيء من الواقع.
إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم المثال الأول في الفهم الصحيح للدين لم يكن في نشاطه السياسي أسير قالب أيديولوجي أو خاضعاً لحكم نبوءات غيبية، بل كان يتحرك وفق معطيات السياسة، ويبدي منتهى درجات الواقعية بما تقتضيه أحياناً من تنازلات مراعية لاختلال موازين القوى المادية، كان النبي يفعل هذا رغم إيمانه ويقينه المطلق بنصرة الله تعالى وتأييده، لكنه يرسخ لنا درساً بأن الإيمان ليس بديلاً عن الواقعية والفهم السياسي إنما هو عنصر إضافي ومثر للفكر المادي.
ولعل أفضل الأمثلة هو موقف النبي يوم صلح الحديبية إذ وقع اتفاقاً سياسياً مع قريش رآه أكثر الصحابة تنازلاً مؤلماً، واقتضت بنود الاتفاق أن يرجع المسلمون إلى المدينة دون أن يدخلوا المسجد الحرام، و رغم أن البشارة القرآنية كانت جليةً بدخول المسجد الحرام: "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"، إلا أن النبي تصرف بمقتضى موازين القوى السياسية لا بمقتضى النبوءة القرآنية، وحين سأله عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال له: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ أجابه عليه الصلاة والسلام: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟" أي أن النبي لم يكن يتعامل مع النصوص المقدسة بمنطق الجبرية السياسية الذي يفرض عليه مساراً واحداً من السلوك، بل كان منطلقاً في تقديره للمعطيات السياسية واتخاذ القرارات التي تضمن أفضل النتائج وأقل الخسائر في ضوء المعادلة الراهنة.
الإيمان بفكرة سامية لا يقتضي تجاهل معطيات الواقع وافتراض أن الانتصار سيأتي بطريقة غيبية خارقة وبقفزة مفاجئة في مسار الأحداث لا تستند إلى القوانين الطبيعية كما يفترض فريق من الناس بأن فلسطين ستحرر عام 2022 وفقاً لبعض الاجتهادات الظنية لحسابات الأرقام في القرآن الكريم.
ونحن هنا لا نناقش النتائج التي خلصت إليها الدراسة، ولا توجد مشكلة مبدئية أن تزول إسرائيل في هذا التاريخ أو قبله، بل نناقش المنهج المتبع وطريقة التفكير التي تستند إلى مجرد اجتهادات ظنية دون التركيز على المعطيات السياسية الإقليمية والدولية والخطة العملية الفاعلة، ما يعني أننا نضع النتائج على الورق قبل استقراء الواقع الموضوعي، وهو ما يناقض المنهج القرآني الذي يدعو دائماً إلى العلم واليقين ويحذر من الظن والتخرصات واتباع المتشابهات: "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً"، والنبي لم يرتهن لنبوءة قرآنية محكمة بدخول المسجد الحرام لأنها لم تحدد عاماً محدداً، فكيف يراد منا أن نرتهن إلى مجرد تخرصات غير قطعية ولا محكمة، وهي قبل ذلك ليست من اختصاص القرآن، فالقرآن في توجهه الغالب ليس كتاب نبوءات مستقبلية بل كتاب إرشاد روحي.
خطورة التعبئة الإيديولوجية تنبع من أنها تحبس عقول أبنائها في قفص بعيداً عن الواقع فتصدر مواقفهم وأحكامهم رغائبيةً وفق ما يتمنون لا وفق حقيقة الواقع.
الأيديولوجي لا يرى الواقع بعناصره الموضوعية، بل يرى صورةً رغائبيةً في مخيلته ويجذب أي إشارة متوهمة ليعزز فيها هذه الصورة المتخيلة، وهذا ما يضاعف أزمة النتائج إذ تنعدم إمكانية المراجعة والإدراك العقلاني لحدود الإمكانيات، لأن الشخص المؤدلج يصدر النتائج مسبقاً ثم يسعى لبرهنتها عبر استحضار الشواهد الانتقائية، أما الشخص العلمي فليس لديه انحياز مسبق لأي نتيجة فيطلق العنان لفكره للاسترسال وجمع مختلف الشواهد لتكوين صورة متكاملة تقارب حقيقة الواقع ولا يهمه أن تأتي النتيجة موافقةً أو مخالفةً لمواقف مبدئية.
من مساوئ التعبئة الأيديولوجية أنها تفقد صاحبها القدرة على التسلسل المنطقي في التفكير، فتنتج فجوة بين معطيات الواقع وبين استنتاجاته، ومرد ذلك إلى أن التعبئة الأيديولوجية تعزز في نفس صاحبها أن ثمة عاملاً مجهولاً غير منطقي يتدخل بآلية ما في توجيه الأحداث ويملأ الثغرات التي يعجز فهمه السياسي عن ملئها، هذا العجز عن التسلسل المنطقي يخلق حالةً من اللا عقل والتعسف في استخلاص نتائج لا علاقة لها بالمقدمات.
كتب أحدهم أنه إذا كان أردوغان قد سجن أربعة أشهر فقاده ذلك إلى حكم تركيا عشر سنوات، فما بالكم إذا أعدم مرسي كم سيحكم الإخوان مصر؟
ما علاقة المقدمات التي وردت في هذا المثال بالنتائج المستخلصة بأن إعدام مرسي سيؤدي بالضرورة إلى حكم طويل المدى للإخوان، وأي قياس غير منطقي بين الأحداث المختلفة؟ هل مجرد سجن قادة الإخوان أو إعدامهم سيعقبه نصر أوتوماتيكي دون اعتبار للاختيار الإنساني المفتوح على احتمالات غير نهائية!
أردوغان لم يحكم تركيا لأنه سجن أربعة أشهر، إنما حكم لأنه استثمر هذه المحنة في المراجعة وتعديل المسار.
التفكير المنطقي يقول إن العبرة بالمراجعة وليست بالتضحية، وإن لم تكن هناك مراجعات وبحث في الأدوات المؤثرة الفاعلة فلو أعدم الآلاف لن يتغير شيء وستنتقل الأحوال من سيء إلى أسوأ.
حالة اللا منطق هذه ليست مشكلة الشباب البسطاء وحدهم، بل يتورط فيها حتى شخصيات تصنف بأنها مثقفة ممن يحملون أعلى الدرجات العلمية فتفاجأ ممن يحمل درجةً علميةً كبيرةً يقدم تحليلاً موغلاً في الغيبية والانفصال عن القراءة الواقعية، مثلما قرأت ذات مرة لأستاذ جامعي كبير يثبت أن تنظيم الدولة على حق لأن الله ينصره بسرعة في العراق، ولو كان منطق صاحبنا صحيحاً لكانت أمريكا على حق لأنها أسرع انتصاراً من كل العرب والمسلمين!
لا غرابة في أن يتورط شخص أنجز عشرات البحوث العلمية في تحليلات منافية لأبسط قواعد المنهج العلمي، فمشكلة الثقافة لا علاقة لها بالذكاء الفردي، والمرء قد يكون ذكياً بمفرده وقد يبدع ويخترع في إطار تخصصه، لكنه ذكاء تقني لا ينعكس على رؤيته الشاملة للحياة، ألا يوجد من عباد البقر أشد العباقرة في الفيزياء والرياضيات! هو ذكي تقنياً لكنه محكوم بالثقافة العامة والعقل الجمعي.
كثيراً ما أشعر أن ما ينقصنا هو التحليل العقلي للأحداث، فقط مجرد التحليل العقلي وليس أكثر من ذلك.
وكل عام وأنتم بخير
واقرأ أيضاً:
المألوفات والممكنات/ معنى الاستغفار/ المحتوى الموضوعي للقرآن/ كيف نفهم آيات القتال في عصر الحلول السياسية؟؟