قرأت كثيرا عن تجربة نهضة البرازيل، ولم أكن أتخيل أن أعبر المحيط وأطير ساعات طويلة لأزور هذا البلد الهام لأتلمس قصة نجاحه عن كثب وبشكل مباشر، وكنت قد زرت من قبل عددا من الدول التي أحدثت نهضة في سنوات قليلة مثل ماليزيا وأسبانيا والصين وتركيا أبحث عن السر في نهضة هذه الدول لعلنا نتعلم فنلحق بهم أو نسبقهم ان استطعنا. حين خرجت من مطار ريودي جانيرو كانت عيناي تجولان يمينا ويسارا أرى مظاهر النهضة الإقتصادية العملاقة جنبا إلى جنب مع مظاهر الفقر والعشوائيات، وكأنه بلد يخرج لتوه من الفقر.
كنت أسأل كل من أقابله من البرازيليين عن سر نهضة البرازيل العظيمة في سنوات قليلة (ثمان سنوات)، فكانت الإجابات تتعدد ولكن بينها خيط مشترك هو شخصية لولا دي سيلفا، ولذلك سعيت أن أقابله شخصيا ولكن تعذر ذلك بسبب حالته الصحية وتعرضه لتحقيق قضائي بسبب قضايا فساد نسبت لبعض وزرائه في فترة حكمه.
نشأته:
ولد سيلفا في 27 أكتوبر 1945م في أسرة فقيرة جدا وكان ترتيبه السابع بين ثمان إخوة وأخوات، وبعد أسبوعين من ولادته ترك والده الأسرة وسافر إلى مدينة ساوباولو برفقة قريبة زوجته نظرا لعلاقة قامت بينهما، ولهذا عاشت الأسرة في فقر مدقع. وعندما أصبح عمر سيلفا 7 سنوات قررت والدته الذهاب إلى مدينة ساوباولو بأطفالها للحاق بزوجها هناك.
وبعد رحلة استمرت ثلاث عشرة يوما في سيارة نقل مكشوفة وصلوا إلى هناك واكتشفوا أن الزوج قد كون أسرة ثانية بزواجه من قريبة زوجته، وعاشت الأسرتان معا في بيت صغير لمدة 4 سنوات، ولكن لم تطب لهم الحياة في هذه الظروف فأخذت الأم أطفالها وعاشوا في غرفة صغيرة خلف بار، ومن يومها لم ير سيلفا والده إلا نادرا حيث أصيب بإدمان الكحول ومات بعد سنوات.
تعليمه وعمله:
لم يتلق سيلفا إلا القليل من التعليم الرسمي بسبب ظروف فقره، إذ لم يتعلم القراءة حتى وصل لسن العاشرة، وترك المدرسة في السنة الثانية الابتدائية ليعمل ويشارك في إعالة أسرته. ثم التحق ببرنامج الخدمة الوطنية للتدريب الصناعي (أشبه بدبلوم صنايع أو تدريب مهني)، وقد بدأ العمل في سن الثانية عشرة كماسح أحذية وكبائع متجول.
وفي سن 14 سنة التحق للعمل بمصنع للنحاس، وفي سن 19 سنة كان يعمل في ورشة للسيارات وقد قطع الإصبع الصغير ليده اليسرى أثناء قيامه بالعمل، ومر على مستشفيات كثيرة طلبا لعلاج إصبعه ولكن لم يهتم به أحد، وقد أثر هذا الحدث في نفسه كثيرا، ولكنه لم يحمل حقدا على المجتمع.
من بعدها قرر الإنضمام لاتحاد العمال بهدف الدفاع عن حقوقهم، ومن هنا بدأت تظهر نشاطاته العامة. وكان اتحاد العمال ذو وجهة يسارية في مقابل الحكومة العسكرية واتحاد التجارة والذين كانوا يملكون السلطة والثروة في البلاد. ثم انضم بعد ذلك لما يعرف ب "حركة العمال"، وانتخب رئيسا لها مرتين (عام 1975 و 1978) كرئيس لاتحاد عمال الصلب.
مسيرته السياسية:
وفي نهاية السبعينات حيث كانت البرازيل تحت الحكم العسكري لسنوات طويلة تدهورت فيها أحوال البلاد، شارك سيلفا في الكثير من الفعاليات السياسية والمظاهرات، وقد اعتبرت المحاكم في ذلك الوقت أن المظاهرات غير قانونية، ولذلك أودع سيلفا السجن لمدة شهر.
وبعد خروجه من السجن استمر في سعيه لإحياء نظام مدني ديموقراطي في حكم البلاد، وأحس بأهمية العمل المؤسسي المنظم، وفي عام 1980م اجتمع مجموعة من الأكاديميين والمفكرين وقيادات اتحاد العمال ومنهم سيلفا وأسسوا حزب العمال لمواجهة الحكومة العسكرية المستبدة.
وفي سنة 1984 م قام الحزب بحملة موسعة للمطالبة بانتخاب الرئيس بطريقة الإقتراع الشعبي المباشر، إذ كان الوضع القائم طبقا لدستور 1967م يختار الرئيس بواسطة أعضاء الكونجرس ومحافظي الأقاليم، وكانت نتائج هذه الإنتخابات معروفة مسبقا، إذ كانت دائما تسفر عن وصول جنرال متقاعد إلى سدة الحكم حيث كانت الرئاسة بمثابة مكافأة نهاية الخدمة للجنرالات. وقد باءت حملة سيلفا ورفاقه بالفشل، إذ رفض الكونجرس مطالب الحملة ليستمر الوضع على ماهو عليه. ولكن في 1985م نجح رئيس مدني في الوصول إلى الحكم بمساعدة سيلفا ورفاقه، وفي عام 1989م وبعد كفاح مرير أصبح انتخاب الرئيس بالإقتراع الشعبي المباشر.
وقد ترشح سيلفا لرئاسة إقليم ساوباولو سنة 1982م وفشل، ولكنه فاز بمقعد الكونجرس عام 1986م. ونجح حزب العمال بقيادته في صياغة دستور جديد للبرازيل يؤكد على مدنية الدولة وحقوق العمال. وترشح سيلفا لرئاسة الجمهورية عام 1989م أمام دبلوماسي قديم، فاختارت النخبة منافسه ودعموه لينجح واعتبروا أن سيلفا متطرفا يساريا لا يؤتمن على استقرار البلاد. وترشح للمرة الثانية عام 1994م ولم ينجح، وترشح للمرة الثالثة عام 1998م ولم يوفق، بعدها توقف سيلفا عن الترشح للإنتخابات لعدة سنوات ليتفرغ لتقوية حزب العمال على مستوى البرازيل كلها.
وحين نجح (في المرة الرابعة) في انتخابات عام 2002م وظهر بملابسه "الكاجوال" وأفكاره التي تزعج رجال الأعمال والرأسماليين والسياسيين التقليديين كان هناك تخوف شديد أن ثمة تغييرات حادة وخطيرة ستلحق باقتصاديات القارة الجنوبية، ولكن سيلفا حين وصل لمقعد الرئاسة غير بعض أفكاره الحادة وبدلا من إحداث تغييرات اجتماعية سريعة انتهج طريقة تدريجية للتغيير واختار منهجا إصلاحيا وليس ثوريا، وتخلى عن المواقف الأيدولوجية واتجه نحو البراجماتية في تحقيق الأهداف، وعلى الرغم من انتماءاته اليسارية إلا أنه كان متقبلا لكافة التيارات السياسية ومتعايشا ومتعاونا معها مما أعطاه ثقة ومحبة الجميع وسهل له تنفيذ مشروعاته الإصلاحية التنموية.
وأحدث تغييرات في نظام الضرائب وقوانين العمل ليشجع الإستثمار المحلي والخارجي، وقام بتطهير القضاء من الفساد، وأجرى إصلاحات جذرية في التعليم الجامعي ليتوافق مع النهضة المجتمعية. وقد غضب منه الكثيرون من أعضاء حزب العمال واعتبروه قد خرج عن قواعد الحزب وأفكاره، وقدموا استقالاتهم من الحزب.
وانتقل سيلفا من نجاح إلى نجاح على مستوى النمو الإقتصادي، إذ أصبح اسمه وأصبحت حكومته محل ثقة الحكومات والشركات فانهالت الإستثمارات الخارجية على البرازيل وزادت معدلات النمو بشكل واضح وتراجع الفقر وتراجعت البطالة بشكل مضطرد، وزادت شعبيته في الداخل والخارج وأصبح أسطورة البرازيل. وساعده على ذلك قدرته الفائقة على التوفيق بين المتناقضات وعلى التفاوض السلمي مع مخالفيه واحترامهم وجذبهم للتعاون معه بدلا من الصراع معهم، وكان يحترم كل البرازيليين سواء اتفق أو اختلف مع توجهاتهم الفكرية والسياسية فكان بحق شخصية توافقية مبدعة.
وقد كان تركيز سيلفا على نوعين من البرامج الاساسية، الأول هو الإصلاح الإقتصادي والثاني هو الإصلاح الإجتماعي. واستطاع أن ينقل البرازيل من دولة عليها أكبر دين في العالم إلى دولة تشكل سابع أقوى اقتصاد في العالم الحديث، وكان يسعى سعيا حثيثا لتصبح عضوا دائما في مجلس الأمن ولكنه لم يتمكن من ذلك. وبفضله خرج 20 مليون برازيلي من دائرة الفقر الحاد (الذي لا يجد طعام يومه)، واستحقت ريودي جانيرو أن تستضيف أوليمبياد 2016م .
وفي مقابلة صحفية يوم 26 أغسطس 2007م صرح بأن ليس لديه نية لتغيير الدستور، وكان ذلك ردا على شائعات بأنه ينوي تغيير الدستور ليتمكن من الترشح لفترة ثالثة ليكمل مشاريعه الإنمائية العملاقة، وقال: "ٍأنهي فترة رئاستي الثانية وأترك البرازيل في وضع قوي يحافظ عليه من سيأتي من بعدي".
وقد رأس لولا دي سيلفا البرازيل من 1 يناير 2003م إلى 1 يناير 2011م (دورتين متتاليتين)، وسلم البرازيل للرئيسة الحالية ديلما روسيف. وقد اختير عام 2010م ضمن مائة شخصية يعتبروا الأكثر تأثيرا في العالم واعتبر أنجح سياسي في وقته.
وفي أكتوبر 2011م اتضح أنه يعاني من سرطان في الحنجرة حيث كان مدخنا لمدة 40 عاما، وقد خضع للعلاج الكيماوي والإشعاعي حتى تعافى من المرض.
وعلى الرغم من كل ما فعله لبلده إلا أن إحدى المحاكم في البرازيل تحقق معه الآن عن مسئوليته عن أحداث فساد حدثت في عهده في بعض شركات البترول، وهو يمثل للتحقيقات في تواضع وانضباط، ففي النظم الديموقراطية لا يصبح الرئيس إلها مقدسا مهما كانت إنجازاته.
هذه هي عظمة سيلفا الفقير ذو التعليم المحدود... ماسح الأحذية... البائع المتجول... صانع نهضة البرازيل.
واقرأ أيضاً:
لماذا يقتل المصريون رؤساءهم ؟/ الزعيم الملهم/ الأثر النفسي للقفص الزجاجي