ليس غريباً أن الحركة الصهيونية كان لها في أوروبا من غير اليهود أنصاراً إضافة إلى داعمين وممولين فاق عددهم في بعض المراحل التاريخية عدد اليهود الصهاينة؛ أما حماسهم للفكرة فحدّث ولا حرج، وقد غلب على نظيره عند يهود أوروبا؛ ذلك أن الصهيونية فكرة غربية، وأداة استعمارية شيطانية غرست كيانها في المنطقة العربية بقوة السلاح المتكئة على وعود غربية، وقوانين مفصَّلة دولياً، أي غربياً بين قوسين، لصالح هذا المشروع.
لكن الغريب والشاذ والمستهجن أن يكون هناك أشخاص عرب يُجاهرون بتأييدهم للحركة الصهيونية خاصة من هم في قالب ما يعرف بـ (النخبة)... نعم هذا غريب لتناقضه مع حقيقية الأشياء لأن الصهيونية هي النقيض الفكري والتحدي الوجودي للهوية العربية، بكل ما تحويه من مكونات لغوية وفكرية وسياسية وجغرافية بطبيعة الحال... إن هذا أمر معيب ومهين، ويجب عدم الإستهانة بآثاره الكارثية... هذا في وقت يتراجع فيه تأييد الصهيونية في أوروبا وغيرها من بلاد لا تنتمي إلى لسان الضاد، بل يتزايد فيها -بإطراد ملحوظ- التضامن مع الشعب الفلسطيني!
وربما أجدني مضطراً لنكئ الجراح والإشارة بلا مواربة إلى أن النظام العربي الرسمي بخياراته وسياساته وممارساته كان عاملاً حاسماً في تثبيط الحالة الكفاحية الفلسطينية؛ ولو أنه خلاّ بين الشعب الفلسطيني، ومن أراد الوقوف معه من العرب القريبين أو المسلمين البعيدين، وبين الصهاينة القادمين من وراء البحار، لكان المشروع الصهيوني قد انكفأ، ولأعادت بريطانيا النظر في تطبيق وعد (بلفور).
وإذا كان للحكومات ضرورات -مع عدم تقبل هذا العذر بتفصيلاته- وللأنظمة خيارات صعبة وحسابات تبتعد غالباً عما نؤمن أنه يجب أن يكون، فلا عذر لمن يُحسبون على النخبة الثقافية العربية من كتبة وصحافيين وفنانين وشيوخ مساجد أو أي فرد أو مؤسسة تُحسب على الثقافة بمفهومها الغرامشي.
لا عذر لهؤلاء المتصهينين (العرب!) في مجاهرتهم الوقحة بتأييد الصهاينة اليهود في عدوانهم، وإذا بدأنا بالشماعة الكاذبة المسماة بحرية التعبير عن الرأي؛ فإن الصهاينة اليهود يُسمح لمثقفيهم بشتم (نتنياهو) ورمي سهام النقد صوب حكوماتهم، ولكن من غير المسموح لهم تأييد أعمال المقاومة، هذا إذا فكروا بذلك أصلاً، فهل هذه الصورة لها نظير عربياً؟ أم أن حرية التعبير عن الرأي عربياً باتت مقتصرة على التطاول على الدين أو مهاجمة شعب فلسطين؟!
لقد تلوث المحيط العربي بمتصهينين لا ندري كيف صاروا يتحدثون بشأن أقدس وأعدل قضية في العصر وهي القضية الفلسطينية، سوى ما جاء في الحديث الشريف عن زمن ينطق فيه الرويبضة، ولا يوجد عقاب حازم يلجمهم أو حالة اجتماعية كثيفة تردعهم، وتمادى هؤلاء في بذاءتهم؛ بل وصل الحال ببعضهم أن يزعم أن ما يتقيأ به من مواقف متصهينة بامتياز هي لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته.
إليكم عنا يا صهاينة العرب، فلولا تراكمات وإفرازات كانت أنظمتكم بعضاً من مكوناتها لما اضطر فلسطيني في ريعان الشباب أن يرمي وراء ظهره كل أحلامه وطموحاته ويمتشق سكيناً ليذود بها عن مقدسات ليست لشعبه دون شعوب أخرى من المحيط إلى الخليج، أو من طنجة حتى جاكارتا... وهو وشعبه ليسوا بحاجة إلى تنظيراتكم، وقد يئسوا من موقف قوي يخرج منكم ومن حولكم؛ وعليه فليس أقل من سكوتكم في زمن هيبة البطولة والشهادة التي إن وجد لها نظير في التاريخ، فلن تجدونه في العصر... إليكم عنا يا من انعدم عندهم الحياء، فلا تنفع معهم عبارة: اخجلوا من أنفسكم!
المشهد والحال لا يمكن أن يحتمل وقاحتكم ولا سخافة (نُصحكم) والألم فينا يكفينا ولا تحتمل أنوفنا التي نالت عبق دماء الشهداء الذين ستروا شيئاً من عورات الأمة بأسرها، أن تشمّ قمامتكم الفكرية والإعلامية الكريهة... اخرسوا وابتلعوا ألسنتكم، أو اطلبوا حق اللجوء في الكيان، هذا إن قبل أن (يتفضل) به على أمثالكم... أما أن تظلوا ترمون قمامتكم من حيث أنتم في عواصم عربية فهو أمر مفرط في سورياليته.
وإلى حكوماتكم أقول: إذا كانت "الظروف الدولية"، والحسابات السياسية تمنعكم من نصرة الشعب الفلسطيني بما يُفترض أن يكون من مواقف عملية، فعلى الأقل الجموا هؤلاء المتصهينين الذين يسرحون ويمرحون ويُسمح لهم باعتلاء منابر المساجد، أو بث الفضائيات، أو فضاء الصحف الإلكترونية، وتسويد الصحف الورقية، فهذا أمر أخاله مازال ممكناً لكم في الهامش الذي وضعتم فيه أنفسكم أو وضعتكم فيه الظروف المذكورة... ألجموا الصهاينة المحسوبين على العرب، وذلك أضعف انتصار لشعب لولا مقاومته وصموده لكانت (إسرائيل) حقيقة من النيل إلى الفرات!
واقرأ أيضًا:
أزمة قراءة أم أزمة كتاب؟/ الكُنُس اليهودية في القدس ودورها في دعم التهويد والاستيطان/ القدس هي كلمة السر