الطب النفسي وتعليمه في سيرة امرأة1
المحطة الثانية: الاكتئاب
انتقلت الآنسة إلى جامعة أكسفورد وهي مؤسسة حياة تختلف تماما عن الدير.
مؤسسات الحياة من نوعين. النوع الأول هي مؤسسات إجبارية غير طوعية تتحكم في سلوك الفرد. وصفت حياتها في الدير بأن النداء إلى الصلاة يتكرر خمس مرات في اليوم وعليها أن تتوقف عن عمل أي شيء وتقطع سلسلة أفكارها لتتوجه نحو آداء الصلاة. كانت تشعر بالمرارة تجاه حياة الدير وكان ذلك واضحاً في أول كتاب كتبته وأسوأ كتاب أيضاً لها بعنوان بداية العالم.
أما المؤسسة الجديدة فهي عكس الأولى طوعية غير إجبارية ولكنها رغم ذلك لم تتفاعل مع الأحداث العالمية والمحلية. كانت هناك الدعوة في جامعتها ضد تسلط أستاذة أكسفورد على مناهج التعليم والدعوة للتغيير. كان العالم يشهد الكثير من التغيرات مثل صعود نجم ياسر عرفات وهجوم فتح على طائرة مدنية في مطار زيورخ وأمر نيكسون بقصف كمبوديا وكانت هناك مناوشات بين الصين وروسيا على حدود منشوريا. كان هناك طالباً تشيكيأً حرق نفسه وطالباً أسبانيأً انتحر بنفس الطريقة احتجاجا ضد فاشستية فرانكوا. كان هناك ربيعاً أوربيا يذكرك بالربيع العربي وكان الجيل الجديد لا ينادي إلا بالحاجة إلى الحب بدل العدوان.
كل ذلك يجري حول الآنسة وهي لا تشعر بأية عاطفة ولا تتفاعل مع الأحداث المحلية والعالمية. هنا نتوقف عند وصف الشاعر الإنكليزي كولدرج من العصر الرومانسي وهو يصور المعاناة التي يمر بها الإنسان حين يرى كل شيء حوله بوضوح ولكنه لا يشعر بأي عاطفة. هذا هو الاكتئاب بعينه. تراه يقول:
أراهم جميعاً بوضوح فائق
ولكني أرى ولا أشعر بجمالهم.
المحطة الثالثة: نوبات السقوط والاستعراض المسرحي
بدأت تعاني من نوبات سقوط نسميها أحيانا نوبات إغماء. لم تكن هذه النوبات جديدة عليها وعانت منها بين الحين والآخر أثناء وجودها في الدير. أحيانا نرى هذه النوبات ترسل الإنسان في رحلة سريعة من الوعي إلى اللا وعي. حين نرى النوبة في الشباب والنساء خاصة ترى المشاهدون يتحدثون عن نوبات استعراض عاطفي أو هستيريا ومحاولة جذب انتباه الآخرين. الحديث هو عن إنسان ضعيفة البنية والتكوين العضوي والعاطفي.
نوبات السقوط تتميز بتشابه الوصفة الطبية والوصفة الجماهيرية. على من تستعرض نفسها بالسقوط أمام الآخرين الذهاب إلى من يكشف الفوضى في عمق النفس البشرية. لا يتوفر الوقت لكي يصغي الصديق أو الزوج وعليها أن تتصل بإنسان يحترف الاستماع. يحصل الكثير على 50 دقيقة أسبوعيا من علاج كلامي وغالبية الوقت هو استماع المعالج للمريض ولو تفحصنا الأمور حولنا لرأينا بأن الاستماع المتواصل لخمسين دقيقة يصعب الحصول عليه من أقرب الناس وترى من يستمع لا يقوى على السكوت ويكسر الصمت للإفتاء برأيه بعد خمسة دقائق.
صور كوخ هذه الفوضى في لوحاته الفنية وصورها كونراد بوضح أكثر في قلب الظلام حين يتحدث في رحلته من العالم المتحضر إلى العالم المتحوش عبر نهر الكونغو ليكتشف بأن قسوة العالم المتحوش لا تختلف عن المتحضر. المعاناة من القسوة في كل مكان.
دخلت الآنسة في علاج كلامي مع الاستشاري النفسي الذي استمع إليها وبدأت تكشف عن الفوضى في داخل أعماق نفسها واستمرت في تفوقها التعلمي ولكنها لم تتفاعل مع الأحدث التي جذبت انتباه الجميع. كانت هناك مأساة بيافرا وقتال الجولان وتقدم الفيت كونغ في فيتنام رغم كل الدمار والحروق التي صنعتها الولايات المتحدة الأمريكية. استمرت بانعزالها ولم يكن لديها زميلة غير راهبة أخرى كانت تدرس في أكسفورد وكانت هذه تعاني من القهم العصبي الذي لا يقل فتكه بالإنسان عن أي مرض عضوي أو نفسي.
هنا نتوقف عن عزلة الناس والخوف الذي يتسلط عليهم. ها هو كولدرج يصوره لنا في بضعة أبيات شعر
أضحيت مثل ذلك الذي يسير في الطريق وحيد
يمضي محملا بالخوف والوعيد
التفت مرة واحدة واستمر يمضي
ولا يبالي باستدارة رأسه
مدركا بأن هناك شيطانا مخيفا خلفه قد يقبض عليه
كذلك صوره كوخ في لوحة عذاب نجوم السماء وصوره بوش في لوحة الجحيم.
تستمر الآنسة في رحلتها وبدأت تفقد إيمانها الديني تدريجيا.
المحطة الرابعة: النجاح والأمل
حصلت الآنسة كارين ارومسترونغ على درجة الشرف الأولى بامتياز خاص في الأدب الإنكليزي وتسمى بتهاني الدرجة الأولى ومن النادر أن تسمع حصول أحد على هذا الشرف إلا كل 10 إلى 20 عاماً. يتم امتحان الطالب المرشح من قبل كبار أساتذة الأدب الإنكليزي في أكسفورد وإذا كان آدائه خاصا يقف الجميع والتصفيق للطالب بعد نهاية الاختبار الشفوي. ساعدتها رحلة العلاج النفسي ولكن جهودها وتصميمها على التفوق كان لا يضاهي. تقول أن رحلتها كانت عبر سلم حلزوني في قاعة الدير ونهايته النور والتفوق وتصورت بأنها نجحت في تسلقه.
ولكن أكسفورد وغيرها من الجامعات ما هي إلا محطة تزورها الطيور الصغيرة لتتعلم التحليق في الفضاء وتغادر أكسفورد لتثبت نفسها في ملعب الحياة الكبير. تسد المؤسسات الجامعية احتياجات ناقصة عند الكثير ولكن دورها مؤقت وعلى الطالب بعد انتهاء دراسته الانتقال الى مكان آخر. لكنها لم تفعل ذلك.
كان رأي أستاذها المشرف عليها أيام المرحلة الجامعية الأولية بأن لا تمتلك المقدرة الأكاديمية ولا تصلح لعمل الدكتوراة رغم تفوقها!. أما رأيها الشخصي فكان عكس ذلك وأصرت على أن دراسة الدكتوراة مباشرة بعد تخرجها ونجاحها الباهر.
قررت الآنسة عمل أطروحتها في دراسة الأديب والشاعر الإنكليزي الفريد تنيسون. كان تنيسون من أوائل الأدباء الذين تحدثوا عن تأثير العلوم البيولوجية والعلمية على الأدب الإنكليزي والعالمي وأجاد في كتاباته عن متناقضات الشك والإيمان. كانت هناك أيضاً شخصية السيدة شالوت في المسرحية الغنائية الأوبرالية له. هذه المرأة تم احتجازها في برج لوحدها معزولة عن العالم بسبب لعنة ما. يوم خرجت من السجن إلى العالم الحقيقي قضت أنفسها.
عاشت مجانا في تلك الفترة مع عائلة أستاذ وأستاذة لديهم أربعة أطفال. الطفل الصغير كان مصابا بالصرع والتوحد وصعوبات تعليمية، وكانت وظيفتها رعاية الطفل مساء الأربعاء لغياب مربيته والذهاب مع الطفل إلى قداس يوم الأحد في الكنيسة. كان هذا الأمر يثير استغرابها وتجرأت يوما وسألت الأم عن هذا الحرص لحضور الطفل الصغير قداس يوم الأحد رغم أن العائلة لا علاقة لها بالدين تماماً.
أجابت الأم: الدين وطقوسه جيدة جداً ولكن للضعفاء من البشر فقط!!!. زاد هذا الجواب في ارتباكها الفكري والعقائدي المتأزم منذ رحيلها بعيداً عن الدير. عبرت الآنسة عن هذا الارتباك وهي تقول في مذكراتها:
هناك شيء ما في داخلي... مزاجي.... جيناتي.... لا يبالي بالدين
الامتحان الحقيقي في رحلة الإيمان هو أن تبحث عن الله لوحدك
لا مواعظ من الآخرين...
لا تراتيل...
لا صلاة مع الآخرين.... إن وجدته وأنت ساجد على الأرض لوحدك.. فقد نجحت
أما أنا فقد فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً.
رغم ذلك فإن هذه المقولة لا تخلو من الصحة.
قررت أن تودع الماضي فقد طالت أيام الألم والارتباك وهنا نتوقف عند مقولة شاعر عظيم من شعراء العصر الرومانسي وليم وردسورث وهو يصف لنا بأن العذاب أحيانا لا نهاية له ولكنه أيضا يقول لنا أن لا نستسلم لآلام الماضي وعلينا أن نعثر فيه عن القوة لبناء الحاضر.
لكن عند هذه المحطة فقدت إيمانها ولم تسترجعه حتى يومنا هذا.
ويتبع.................. الطب النفسي وتعليمه في سيرة امرأة3
واقرأ أيضًا:
الشك في رمضان / النزاعات الوجودية والشباب العربي / معالم الأخلاق والطب النفسي / حرية الرأي في العالم العربي والإسلامي من منظور اجتماعي نفسي / يا مسهرني بين القاهرة وهافانا