البرنامج هو لأحد كبار الإعلاميين (بمقاييس السن والانتشار والنفوذ والإعلانات) ... على مدى أسابيع وربما شهور انشغل البرنامج (بطاقمه الكبير) وشغل الناس معه بحكايات الجن والعفاريت والبيوت التي تشتعل النار فيها فجأة بفعل العفاريت ودارت كاميرات البرنامج تصور بشكل مثير هذه الحالات وصيغت العبارات الوصلية بطريقة توحي بأن الهدف هو "البحث عن الحقيقة" في مواضيع غامضة وسحرية. وبلغ الأمر ذروته في الأسابيع الخمس الأخيرة حيث وقع طاقم البرنامج أسرى لدجال ومشعوذ يدّعي أن لديه "هبة ورحمة من الله", تمكنه من شفاء أي مرض, وأفردوا لهذا الدجال ساعات طوال في البرنامج, ورفض الدجال أن يأتي عالم دين ليعلق على ما يفعل, فهو يدرك أن ما يفعله لا يقره الدين, وقد رضخ طاقم البرنامج لرغبته, وتركوه يصول ويجول في وقت البرنامج, وحين استضافوا بعض الأطباء للتعليق على مايفعله هذا المدّعي لم يعطوا لهم الفرصة للرد, بل إن أحدهم كان أحد أساتذة علاج الأورام بالقصر العيني لم يعط مدة دقيقتين ليرد, وكأنهم لا يريدون إيضاحات العلم وكشفه لهذه الخرافات والترهات, كي تبقى حالة الغموض اللذيذة تجذب المشاهد لمزيد من الحلقات سعيا وراء مزيد من الإعلانات والمشاهدات.
وقاموا بحذف العبارات التي قيلت من المشاركين من أهل العلم والتي تصف ما يفعلونه بأنه مخالف لمواثيق الشرف الإعلامي ولأي أمانة مهنية, وتمادوا في إحضار بعض المرضى ليعالجهم الدجال أمام الناس كذبا وادعاءا وتلفيقا. وما يفعله الدجال الذي وقعوا في غرامه وانبهروا بحركاته في النصب والإحتياللا يعدوا كونه نوع من الإيحاء لضحاياه ذوي التكوين النفسي الهش القابل للإيحاء حيث يسيطر عليهنّ بهالة كاذبة يحيط بها نفسه بأنه أكبر عالم روحاني في العالم ويتمتم بآيات من القرآن لا يحسن نطقها, ويحرك عود بخور حول مؤخراتهن وأيديهن, ويحولهن من بشر ذوات إرادة إلى "أشياء" مسلوبات الإرادة يرفع أيديهن يمينا ويسارا.
ويبدو أن طاقم البرنامج لم يشاهدوا أفعال الساحر في مدارسهم الابتدائية أو ألاعيب الحواة في ساحات الأسواق ولا فنون السحرة المحترفين على القنوات الفضائية , لذلك ينبهروا بالأفعال البدائية لهذا المشعوذ وكأنها معجزات ولا يريدون أن يفهموا (حين قيل لهم) أن ما يفعله لا يعدوا كونه إيحاء لشخصيات ضعيفة وهشة ومهزومة وقابلة للإيحاء أو صاحبات مصلحة مع الدجال.
وللأسف الشديد يبدأ برنامج العفاريت هذا بفقرة مطولة جدا عن أعمال البر والإحسان لجمعية خيرية يرأسها القائم على البرنامج حيث يظهر الفقراء والمعدمون من المصريين في ثياب رثة وأحوال بائسة وأجساد متهالكة يتلقون عطايا الجمعية الخيرية ويطلب منهم الثناء الكثير المذل للجمعية وصاحبها على ما أفاضه عليهم من نعم, ويدعم هذا الثناء ثناءات من موظفين وعاملين في الجمعية وغيرها بجهود صاحب الجمعية (وليّ النعم) في الخير والبر والإحسان, ويظهر صاحب الجمعية في لقطات كثيرة مبتسما ومتحدثا بصوت رخيم ورقة وحنان عن استمرار تفانيه لخدمة ومساعدة الفقراء, وهنا تتكرر صورة الأسياد والعبيد, صورة ولي النعم الذي يحنو على الفقراء والمساكين, ويتحول المصريون من مواطنين أصحاب حقوق واجبة ومؤكدة على الدولة إلى عبيد مساكين يتلقون الهبات والعطايا من أصحاب القلوب الرحيمة, وعليهم أن يقبلوا أيادي الأسياد ويلهثون بالدعاء لهم ويكررون مدحهم طوال فقرة التسول والتوسل إلى أهل البر والإحسان.
وتلي فقرة البر والإحسان فقرة الجن والعفاريت وتتأكد فيها أيضا فكرة الأسياد والعبيد, فالأسياد هنا هم العفاريت الذين يتسلطون على المصريين الغلابة فيسلبونهم الأمان في بيوتهم (بحرقها) ويسلبونهم صحتهم ثم يعيدونها إليهم إذا رضوا عنهم أو توسط لديهم ساحر أو دجال أو مشعوذ تحت مسمى المعالج الروحاني.
والمعالج الروحاني حين تكلم تحت ضغط أحد المناظرات معه حكى عن حياته الشخصية وظهر من كلامه أنه مريض نفسي لديه سجل حافل من ضلالات العظمة والقدرة والتأثير والإصطفاء والهلاوس السمعية والبصرية ممزوجة باضطرابات شخصية سيكوباتية استطاعت أن تخدع البسطاء والجهلاء وأنصاف المتعلمين بحيل وألاعيب بدائية. ولم تتوقف عملية التدليس الرخيصة عند خمس أسابيع متتالية فما زال مسلسل هذا العالم الروحاني مستمرا حيث أعلن مقدم البرنامج أنه سيواصل حلقاته مع أسرار الجن والعفاريت والمعالج الروحاني لأسابيع مقبلة ولا عزاء للبسطاء والمبهورين والمخدوعين تحت لافتة "البحث عن الحقيقة".
والمفارقة أن القائم على البرنامج هو أحد رموز الإعلام المصري وحاصل على درجة الدكتوراه فيه, ويدرس لطلبة الإعلام أخلاقيات الإعلام ومعاييره المهنية ومواثيق الشرف فيه ويخصص جائزة باسمه للتميز في العمل الإعلامي. وبما أنه معروف بالتدين لذلك يتبقى لدينا أمل أن يقرأ قول الله تعالى: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا"... ويقرأ قول رسوله الكريم: "من أتى كاهنا أو عرافا لم تقبل له صلاة أربعين يوما".. وقوله في رواية أخرى: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد".
واقرأ أيضًا:
المصريون والجن(4)/ النساء؟ أم سمات تكثرُ في النساء!؟/ الطبيب النفسي ينكر أثر الجن والسحر والعين مشاركة/ الأمراض النفسية كلها مس أو تلبس بالجن××/ نفس اجتماعي: سحر وحسد وتلبس، جهل نفسي/ المصريون والعفاريت(3)/ الجن بين الدين والطب والعلم