يُقيم اليوم على طول الجغرافيا التركية ملايين من العرب أغلبهم قدِم إليها بعد الثورات والثورات المضادة فراراً بالأرواح أو بحثاً عن حياة أفضل أو هرباً من الملاحقة والاعتقال في بلادهم الأصلية. يُدرك هؤلاء، وتُدرك تركيا معهم بل قبلهم، أن الغالبية العظمى منهم لن تستطيع العودة أو لن تعود إلى بلادها حتى بافتراض نهاية الاحتراب أو تحسن الأوضاع نسبياً. إذ أن أزمات العالم العربي مستدامة وطويلة المدى بحيث لا تُشجع التحسينات الجزئية المؤقتة -في حال حصولها- على اتخاذ قرار مصيري بالعودة، كما أن من طبيعة الغربة/المنفى أنها تؤسس لحياة جديدة ذات حبال كثيرة تُقيد حركة صاحبها في الاتجاه المعاكس، سيما في حالات الزواج والعمل والدراسة.... الخ.
وعليه فإن نسبة مقدرة من هذه الملايين -وأعتقد أنها الغالبية منها- مرشحة للبقاء هنا في تركيا، بغض النظر عن التوصيف القانوني لبقائهم من حيث الجنسية أو الإقامة أو اللجوء أو الاستضافة. وهذا يُلقي على كاهل تركيا أعباءً سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية إضافية، كما يُلقي على كواهل هذه "الجاليات" العربية المقيمة في تركيا مسؤولية كبيرة أيضاً فيما يتعلق بالعلاقات التركية - العربية من منظور العرب المقيمين في تركيا، ولنُسمِّهم "عرب تركيا".
وحتى تقف هذه العلاقات على أُسس سليمة ومتينة تفتح المجال لتطويرها واستفادة الطرفين منها وتُقلل من مخاطرها وسلبياتها، على قاعدة التفاعل والاندماج البعيدين عن التقوقع من جهة والذوبان من جهة أخرى، أقترح وضع النقاط التالية نُصب الأعين وفي الحسبان:
أولاً، التفهم والتفاهم:
بحيث يُنَظم التواجد العربي في تركيا وتتبلور آفاقه المستقبلية وفق تفاهم وتواصل العرب المقيمين هنا مع الطرف التركي، وخصوصاً الحكومة التركية، تفادياً للنتائج السلبية المتوقعة بسبب اختلاف اللغة والثقافة فضلاً عن العدد الكبير الوافد في زمن قصير نسبياً.
ويتبع ذلك أن يكون ثمة تفهم لوضع تركيا الخاص والتغيرات المتوقعة في سياستها الخارجية، بحيث لا يكون سقف الطموح عالياً مما قد يؤدي إلى خيبات أمل لاحقة من جهة، وبحيث لا يزيد الوجود العربي في تركيا من إحراجها في الخارج من جهة أخرى. إن الدعم المطلوب تقديمه لتركيا لا يُشترط -بل يجب- أن لا يكون على شكل تضامن جماهيري وأنشطة علنية تقودها التيارات المؤدلجة، بل عبر تفهم خصوصية تركيا وحساسية موقفها، سيما في منظومة علاقاتها الغربية، حتى لا يكون محبوها من العرب مثل "الدب الذي قتل صاحبه".
ثانياً: التنظيم والتنسيق:
من أكبر الصعوبات التي تواجه تركيا في تعاملها مع "عربها" أنها تكاد تُخاطب كل واحد فيهم على انفراد بشخصه وصفته، وهذه وصفة واضحة للبطء والعقم والفشل، والسبب هو الوفود المفاجئ والمتسارع لأعداد كبيرة منهم في زمن قياسي، بحيث غابت المؤسسات الجامعة التي تستطيع تمثيلهم أو ادعاءه على الأقل.
وهنا تأتي أهمية التأكيد على أنه مما يُمهد سُبل العلاقة بين الطرفين أن تكون هناك قنوات واضحة ورسمية وذات مصداقية لدى المقيمين العرب وتُحسن تمثيلهم، بما يؤمن التواصل المباشر والسريع والسليم بينهم وبين السلطات التركية في الاتجاهين ويُقلل من مساحات سوء الفهم وسوء التواصل وسوء التعامل من الطرفين.
وعليه، تحتاج المؤسسات العربية كثيرة العدد متفاوتة التمثيل والأداء على الأراضي التركية للإسراع بإنشاء منبر يجمعها جميعاً، على اختلاف بلدانها وخلفياتها وانتماءاتها وآرائها وأنواعها ومجالات عملها، بحيث يمكن الحديث عن منظمة أو منبر أو مجلس ما يمكنه الحديث باسم العرب المقيمين هنا والحديث إليهم باعتباره الممثل شبه الرسمي لهم وقناة الاتصال الرسمية بينهم وبين الحكومة ومؤسساتها وأشخاصها.
ثالثاً: رؤية واضحة:
المنبر الذي سيجمع المؤسسات العربية سيكون مظلة للتفكير والتخطيط للوجود العربي على المدى الاستراتيجي، وسيقدم بيئة تفاعلية تستطيع بلورة رؤية واضحة لهذا الوجود وما ينبغي أن يكون عليه بعد عشر سنين أو عشرين أو خمسين سنة.
حيث تحتاج هذه "الجاليات" إلى أن تتحول إلى عنصر إثراء في تركيا أكثر من كونها عبئاً اقتصادياً واجتماعياً، كما تحتاج إلى بلورة خطة شاملة تتضمن الرؤية والأهداف والخطط الرئيسة التي يمكن لها أن ترسخ الوجود العربي في تركيا على قاعدة استفادة الطرفين (Win -Win Game) منه.
هذه الرؤية فرصة ذهبية لتأسيس "لوبي" عربي في تركيا يدعم الحقوق ويضاعف من الفرص التلاقي والتعاون والتفاعل العربي -التركي، ولا بد في هذا السياق من الاستفادة من التجارب السابقة في الولايات المتحدة والقارة الأوروبية، سيما إنكلترا التي تعتبر النموذج الأقرب لتركيا، حيث كانت الأولى ملاذاً للتيارات القومية العربية في السابق بينما تبدو الثانية اليوم ملاذاً للتيارات الإسلامية أكثر من غيرها.
رابعاً: الشراكة الحقيقية:
ينبغي على "عرب تركيا" أن لا يتعاملوا معها بمنطق الدونية أو الشعور بالحاجة المحضة أو الافتتان المبهر، ولو حتى على المستوى الذهني. لا أدعو طبعاً إلى ندية كاملة بين الطرفين، فذلك غير ممكن ولا مطلوب ولا مفيد، لكنني أدعو إلى ثقة بالنفس تُفجر الممكنات وتُحفز على الفعل والإنجاز وإلى ثقة بالطرف الآخر تبتعد عن الريبة والشك من جهة والانبهار المقعد عن الاستفادة من جهة أخرى، بحيث يمكن لكلا الطرفين أن يقدم بين يدي هذه العلاقة ما أمكنه وما يحتاجه الطرف الآخر، على نسب متفاوتة طبعاً باختلاف الكينونة والقدرات.
وإن من ألزم ما تحتاجه هذه الشراكة المأمولة هو الاستفادة من الوجود العربي في تركيا السابق على السنوات القليلة الماضية، على مستوى المؤسسات والنخب والأفراد، من باب التعمق في فهم المجتمع التركي ومن باب تنظيم الوجود العربي، إذ ليس من داعٍ لإعادة اختراع العجلة أو اكتشاف الأمريكتين من جديد.
خامساً: علاقة راسخة:
حتى يكون هذا "المشروع" مضموناً ومستداماً على المدى البعيد، لا ينبغي أن تنحصر العلاقة العربية مع الحزب الحاكم أو بعض شخوصه، بل ينبغي أن تتعداه إلى كافة أطياف الشعب والنخب والمجتمع الأهلي والأحزاب السياسية الأخرى، بحيث يصبح الوجود العربي حقيقة ماثلة ومقبولة من هذه الأطياف في الحاضر والمستقبل تستطيع تجنب الاضطرابات والتذبذبات والتراجعات.
قد يرى البعض في هذه الدعوة عدم وفاء للقيادة السياسية التركية ممثلة بالرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، باعتبار أنهما تحملا الكثير من اللوم والنقد والتهجم من قبل هذه الأطياف بسبب سياساتهم تجاه القضايا العربية، لكنني لا أرى ذلك.
فالدعوة هنا جوهرها ليست للتحزب أو الولاء أو الانحياز بقدر ما هي دعوة للتواصل والحوار والتلاقي لتعزيز إمكانية الفهم والتفهم، كما أن الوضع الطبيعي لأي وجود عربي في تركيا أن يتواصل مع كافة أطياف المجتمع باعتباره يُقيم بينهم ومعهم، إضافة إلى أن هذا التواصل مع الأطياف الأخرى لن يكون على حساب العلاقة المتميزة مع "حزب العدالة والتنمية" بل أدعي أنه سيسعد بها بل ويدعو إليها، فضلاً عن أن هذا التواصل في صالح المقيمين العرب بنفس القدر الذي سيكون في صالح القيادة التركية وخصوصاً "حزب العدالة والتنمية" حين تتبنى شرائح تركية أوسع هذه القضايا وتقبل الوجود العربي بين ظهرانيها وتُخفف من نقدها ولومها للرئيس والحزب الحاكم، قدر الإمكان.
وبعد...
إن العلاقة مع تركيا اليوم ليست اختياراً وليست ترفاً يمكن تجاهله أو التقليل من أهميته، بل هي ضرورة مُلحة وعاجلة بأكثر مما يتصور الكثيرون. إن أهمية تركيا لا تكمن فقط في قفزتها الاقتصادية ولا في تجربتها النهضوية ولا في نموذجها السياسي الإصلاحي ولا حتى في موقفها السياسي المحتضن لقضايانا. أكثر من ذلك ومعه وقبله، تظل تركيا نموذجاً مُهماً للتعايش والسلم الأهلي رغم التنوع الاجتماعي والعرقي والمذهبي نحتاجه جداً في هذه الفترة الحرجة من تاريخ منطقتنا، كما أنها صمام الأمان الرئيس لعدم إنزلاق المنطقة إلى حرب طائفية - مذهبية يمكن أن تتركها أثراً بعد عين دون نتائج أو فوائد تُذكر لأي طرف من الأطراف.
فإذا كانت تركيا بهذه الأهمية وأكثر، وإذا كانت قد قدمت وستظل تقدم لنا ولقضايانا الكثير، وإذا كان وجودنا ليس طارئاً ولا مؤقتاً ولا زائلاً، فإننا نحتاج إلى أن نُرسخ وجودنا ونرسّم علاقاتنا ونُطور شراكتنا بما يضمن الأمن والأمان والسلامة والسلام والفائدة والطمأنينة للجميع. إن الشكر لتركيا واجب، بيد أنه ينبغي أن يكون على مستوى العمل لا الكلام فقط، على مستوى السياسات لا الشعارات فقط، على مستوى المؤسسات لا الأفراد فقط، على المستوى الاستراتيجي لا الآني المؤقت فقط.
واقرأ أيضاً:
السؤال يتكرر.. هل تدخل تركيا الحرب / خيارات تركيا بعد اتفاق فيينا / الحسابات التركية في أزمة المقاتلة الروسية