على الرغم من كراهيتي الشديدة للزحام أحرص في كل مرة يفوز فيها الفريق القومي على النزول إلى الشارع لأذوب وسط أمواج البشر السعداء, وهي لحظات لا تتكرر في حياة الشعب المصري – حسب علمي - إلا في مثل تلك الظروف, ولذلك فهي لحظات استثنائية ترى فيها الفرحة الحقيقية تغمر الجميع على اختلاف انتماءاتهم واتجاهاتهم وميولهم, وهي الحالة الوحيدة التي تتجمع فيها قلوب المصريين ويتجاوزون إحباطاتهم وهمومهم وأحزانهم ومخاوفهم, حالة من الزحام الاختياري اللذيذ تتوقف فيها حركة المرور دون تذمر أو ضيق أو كلاكسات استغاثة أو سخط على النظام المروري المضطرب, حالة ينسى الجميع فيها غلاء الأسعار, وصعوبات الحياة, واستقطابات السياسة وإحباطاتها وأكاذيبها, وإطلالات الإعلاميين المزيفين للوعي, وكلمات الدعاة المدّعين, إنها حقا حالة فريدة بكل معنى الكلمة لا يدركها إلا من ينزل إلى الشارع ليذوب وسط هذه الموجات البشرية السعيدة والمبتهجة. فما هو يا ترى السر وراء هذا الانتماء السعيد والذوبان الأسعد والتوحد الشعبي الهائل, وأي قوة عاتية تتعتع موجات الهموم والصراعات والخلافات لكي تضع مكانها كل هذه التيارات من الفرح الحقيقي والجارف؟.
يقولون إن الشكل الكروي هو أكثر الأشكال راحة للنفس حيث يخلو من الزوايا والنتوءات, وتستطيع أن تلتف حوله من كل الجهات بلا فرق, وهذا ما يجعل القلوب تلتف حول الكرة من كل الطوائف والأعمار ومن كل الجهات بشكل متساو, وتكاد تكون الكرة هي مصدر المتعة الدنيوية الوحيدة التي لا تفرق بين غني وفقير, أو بين مثقف وجاهل, أو بين صغير وكبير, إنها حالة من المساواة الاجتماعية في توزيع السعادة الممزوجة بالإثارة (وأحيانا التعاسة).
وقد يكون الانتماء الكروي انتماءا بديلا وبريئا وسعيدا بعد أن ضعفت الانتماءات الأخرى أو أصبحت محاطة بمخاطر ومحاذير خاصة الانتمائين الديني والسياسي. وإنها لظاهرة عجيبة تستحق اهتمام الجادين من علماء النفس لكي يحللوا ويفسروا كيف يخرج الشباب المصري والفتيات المصريات الذين ضعف حماسهم لمسائل الانتماء والهوية في مواقف كثيرة, خرجوا يحملون الأعلام المصرية بكل هذه الأعداد في الشوارع والطرقات يهتفون باسم مصر وباسم أبطال الفريق القومي من صميم قلوبهم, وكأنهم جوعى للانتماء وطالبي هوية. ولقد اهتز كياني وأنا أقرأ ما كتبته فتاة مصرية في مدونتها تقول : "عفوا فأنا لا أشعر بوطنيتي إلا أثناء المباريات الدولية؛ ولست وحدي من أعاني من الوطنية الكروية فمعظم أبناء جيلي لا يهتفون باسم مصر إلا أثناء تسجيل أهداف مباريات كرة القدم الدولية فقط . فأنا لا أتذكر أني أمسكت علم مصر إلا في كأس الأمم الأفريقية لعام 2006 "ومين في مصر ممسكوش" حيث كانت الوطنية الكروية في أزهى عصورها في مصر. وأتمنى أن يأتي يوم أشعر بهذا الشعور الجميل شعور الوطنية تجاه أي شيء أخر سوى الكورة. أتمنى أن أهتف لمصر خارج الإستاد وأتمنى أن أمسك علم مصر خارج المستطيل الأخضر ".
وقد تكون أرض الملعب مثالا لحياة بديلة يرى فيها الناس العدل والقوة والجمال والنظام والانضباط والانتصار والصراع النظيف أو المنافسة الشريفة, وكلها أشياء أصبحت مفتقدة في الحياة اليومية التي امتلأت بالظلم والكذب والخداع والضعف والقبح والاضطراب والعشوائية والانكسار والانتهازية والوساطة والالتواء والتآمر والخبث وتزييف الحقائق, ولهذا نرى الناس الذين يتجرعون الظلم وهم صامتين في كثير من نواحي حياتهم يثورون بشدة إذا تحيز الحكم لأحد الفريقين أو أصدر قرارا ظالما, ونراهم لا يتسامحون مع لاعب قصر في أداء واجبه مع أنهم هم جميعا مقصرين في أداء الواجبات, ونرى أرض الملعب نظيفة ومخططة ومحددة في حين تغيب النظافة ويغيب النظام بمجرد الخروج من باب الملعب, ونراهم يلعنون المدرب إذا وضع أحد اللاعبين في التشكيل مجاملة أو وساطة مع أنهم يفعلون ذلك ويقبلونه أو يرغمون عليه كل يوم.
والنفس البشرية تتوق إلى القوة وتتوق إلى الجمال وتتوق إلى البطولة وتتوق إلى الانتصار, وقد لا تجد هذا في الحياة اليومية, أو لا تستطيع تحقيقه لهذا تحاول أن تشبع من هذه المعاني بأن تملأ أعينها من قوة اللاعبين وجمال الأداء وروعته, وحلاوة البطولة ولذة الانتصار, خاصة حين تغيب البطولات والانتصارات في المجالات الأخرى للحياة.
وحركة الكرة مع حركة اللاعبين مع احتمالات الفوز والخسارة مع المفاجئات المتتالية, كل هذا يؤدي إلى حالة من الحراك النفسي, وطرد الركود والملل, وانتظار المكسب بعد الخسارة, والخوف من الهزيمة بعد الانتصار, إنه شيء أشبه بلذة المقامرة بين قطبي المكسب والخسارة, وبهذا تحقق الكرة وتقلباتها الحكمة القائلة: "لو لم يكن للمعنى عكس المعنى لما كان للمعنى معنى", فحلاوة الكرة هو تقلبها بين المكسب والخسارة, وبالتالي تقلب القلوب معها صعودا وهبوطا, طردا للملل والركود والثبات البليد. والكرة بهذا المعنى نوع من الإدمان البديل, حيث تقول إحدى نظريات الإدمان أن المدمن يتعاطى لكي يمر بخبرات التقلب في حالات مزاجية مختلفة أو يرتفع وينخفض بحالة وعيه. واللاعبون بهذا المعنى لا يركلون الكرة بين أرجلهم وإنما يركلون قلوب مشاهديهم الذين يستمتعون بهذا الركل اللذيذ مع ما يصاحبه من تقلبات في مستويات الأدرينالين والدوبامين.
والتحليليون يذهبون إلى أن اختراق الكرة لمرمى الخصم له معنى جنسيا, ويفسرون بذلك حالة النشوة الجماعية التي تنتاب الجماهير الفائزة, وكأنها حالة إرجاز أو ذروة شبقية. والهزيمة لدى التحليليين هي نوع من الخصاء المؤلم الذي يستدعي تجميع الطاقة لمواجهته والخلاص منه واستعادة القدرة على اختراق مرمى الخصم وإخصابه بالهدف تلو الهدف (أعرف أن كثيرين يستنكرون تلك الرؤية وتلك اللغة ولكن هكذا التحليليون يتحدثون) .
ولا تخلوا الملاعب من المعتقدات الدينية والسياسية, وكثير من الأساطير والخرافات تظهر في كيفية استدعاء النصر بالطقوس الدينية أو بالتعاويذ والأدعية وربما الأحجبة, وأيضا في التعبير عن فرحة الفوز بالسجود, أو الانبطاح أرضا, أو دعاء الشكر, أو أي طقس يرتبط بالثقافة الشعبية أو الجذور الدينية.
ومع تطور الأسلحة واشتداد قدراتها الفتاكة, وكراهية الناس للحروب أو تخاذلهم عنها إيثارا للسلامة, قد يصبح التعبير عن الصراع والمنافسة من خلال المسابقات الرياضية وخاصة الكروية, وتتحرك الشعوب خلف فرقها القومية مثلما كانت تتحرك أيام المجد والكرامة خلف جيوشها, وتستبدل أقواس النصر العسكرية بأعلام تباع في إشارات المرور لتعلق على السيارات, وتستبدل المواكب العسكرية المنتصرة بجموع الشعب يجوبون الشوارع بعد انتصار الفرق القومية. لسنا بصدد تقييم صحة هذا أم خطئه ولكننا نرصد الظاهرة وتطوراتها وتداعياتها, فالسلوك الإنساني بما فيه من ميل للصراع والمنافسة قد يأخذ أشكالا عديدة للتعبير عن نفسه, وفي زمن تخضع فيه بعض الدول سياسيا أو عسكريا ويتم إخصاؤها اجتماعيا, قد يكون مجال الانتصار ورفع الرأس المسموح به كرويا فقط.
وقد تتراجع فرحة الأعياد الدينية والأعياد الوطنية لكي تتكثف الفرحة وتشتد كأقصى ما يكون الاشتداد يوم النصر الأكبر للفريق القومي في المباريات الدولية. وقد ينطفئ الحماس للاكتشافات العلمية, وتخبو جذوة المواهب الأدبية والفنية, في حين تتوهج الحماسات الكروية, والسبب في ذلك أن الاكتشافات العلمية والنجاحات الأدبية غالبا ما تكون فردية أو منتمية لفريق عمل صغير يعمل في الغرف المغلقة, وبالتالي يصعب التوحد معها, كما أنها تكون في الغالب متدرجة ومنطقية وتخلو من عنصر المفاجأة والإثارة ومن احتمالات المكسب والخسارة والصعود والهبوط الدراميين, أما النجاحات الكروية فهي تتم على مرأى ومسمع الجميع وتسمح للمشاهدين بالتوحد مع الأبطال الكرويين القوميين في صعودهم وهبوطهم, ذلك التوحد الذي يعطي للنفس إشباعا هائلا دون جهد تبذله, شيء أشبه بالتوحد مع أمجاد الأجداد والتباهي بإنجازاتهم التاريخية في حين يستمتع الأحفاد بممارسة التثاؤب التاريخي على المقاهي العامرة.
وقد يصبح لاعبو الكرة صناع سعادة للشعوب بجانب كونهم صناع ألعاب, خاصة تلك الشعوب التي امتلأت جوانب نفوسها بمشاعر القهر والإحباط والتعاسة وفقدان الأمل في الحاضر والمستقبل, بحيث يكفي لكل مواطن مشاهدة مباراة كرة قدم في نهاية يومه التعيس لكي ينسى همومه ومتاعبه ويستطيع النوم بلا مشاكل له أو لغيره. وقد تناط بالمدير الفني للفريق مهمة المحافظة على الاستقرار من خلال تفانيه في تحقيق الفوز الذي يسعد الجماهير الثائرة والفائرة فيدعها في حالة خدر لذيذ لا تفيق منه حتى يلاحقها بانتصار كروي قومي ألذ.
وقد تستخدم الكرة في العلاج النفسي للجموع الغفيرة حيث يهاجم المشاهدون الحكام (حكام الكرة) ويصبون عليهم جام غضبهم لاحتساب ضربة جزاء خاطئة أو لتحيزهم لفريق ضد آخر, أو يسبون حامل الراية الذي تغافل عن "أوف سايد" عامدا متعمدا, أو يثورون على مدرب لم يقم بواجبه جيدا رغم آلاف الجنيهات التي يتقاضاها, أو يطالبون بإقالة الجهاز الفني أو الإداري بعد أن فقد صلاحيته وفقد شفافيته وفقد طهارة يده, كل هذا يشكل تنفيسا هائلا عن رغبات مكبوتة يتم معالجتها عن طريق الإزاحة والإسقاط والرمزية والتكثيف والإبدال, وبهذا يضمن الجميع السلامة والنوم الهادئ بعد مباراة صاخبة وحوارات تابعة أشد صخبا وتنفيسا. ولكي تتأكد من هذه القدرة العلاجية التنفيسية سل جموع الشباب عن أسماء لاعبي المنتخب وسلهم في ذات الوقت عن أسماء الوزراء.
وقد تعيد الكرة الدفء للعلاقات الأسرية حين تلتف الأسرة لأول مرة في حياتها في وقت واحد حول جهاز التلفاز وقد نسوا خلافاتهم وأحزانهم وغربتهم واغترابهم لكي يشاهدوا المباراة مع طقوس قزقزة اللب وتناول الفول السوداني مع الشاي الدافئ, والخروج من حالة الملل الأسري بصيحات التهليل والتعانق مع كل هدف, والإحساس بأن ثمة شيء ما زال يجمع شتات هذه الأسرة, وقد تنتقل هذه العدوى التواصلية الدافئة إلى المجتمع حيث تجمعات المقاهي والأندية الاجتماعية وجلسات الأصدقاء, والتي تشكل الأحاديث الكروية فيها أكثر المواد طرافة وجاذبية وحميمية وحرارة. وتتبدى اللحمة الشعبية (الهائلة والمؤقتة) في آلاف الجماهير المحتشدين في استاد الكرة يهتفون ويغنون ويرقصون "معا".
وهكذا تتبدل الحياة وتتغير مع صعود الكرة وهبوطها, وتنشط الأجهزة الحيوية بشكل رائع ومفاجئ عند اختراق الكرة لشبكة الخصم, وتسعد الجماهير بسهرة حتى الصباح رافعة أعلام الوطن المنتصر, وتصبحون على خير.
واقرأ أيضًا:
لعبة الكرة واللعب بالأوطان / لا مصر ولا الجزائر يستحقان... / مصر كلها الآن ترقص كيف الجزائر؟ / مصر كلها الآن محبطة كيف الجزائر؟ / لمـــــاذا الهوس بالكرة؟ / قاتل الله الكرة.. كم تفرق بين الأشقاء / إنت ماحدّش بيعملّك حساب!