هناك حقيقة واحدة لا تقبل الجدال وهي أن الحالة النفسية وسلوكيات الإنسان، ومشاعره مصدرها الدماغ. حاول العلم صياغة الحالة النفسية العاطفية للإنسان وسلوكه مع استحداث فرضيات ونظريات متعددة منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.
ما نعرفه الآن هو أن الدماغ يتكون من خلايا نسميها العصبونات تتجمع في مناطق متعددة من الدماغ. نجح العلم أولا في ربط منطقة معينة بسلوك أو مرض معين، وتبع ذلك تعيين الاتصالات بين عصبون وآخر ومنطقة وأخرى حتى تم توضيح ما نسميه الشبكات العصبية. أما الخطوة الثالثة فقد ركزت على الناقلات الكيمائية العصبية بين عصبون وآخر. أما المرحلة الرابعة فقد تعمقت في ما داخل نواة الخلية العصبية وما نسميه الجينات. بعبارة أخرى يمكن تقسيم هذه المراحل في دراسة وظائف الدماغ كما يلي:
١- مرحلة التشريح الوظيفي.
٢- مرحلة الشبكات العصبية.
٣- مرحلة التنقل العصبي الكيمائي.
٤- مرحلة البيولوجية الجزيئيّة Molecular Biology.
انقر الصورة لترى حجما أكبر
ولكن هذه النماذج بحد ذاتها ليس من السهولة إدراكها واستعمالها في التواصل بين العامل في الصحة النفسية والمراجع. حين يشكو الإنسان من القلق والاكتئاب لا يكفي أن نقول له بأن لديك مشكلة في مرحلة التنقل العصبي الكيمائي ولذلك لابد من تعديل ذلك بعقاقير، ونضيف بعد ذلك بأن هذا العطل مصدره جينات تم توارثها عبر الأجيال. الإنسان في تواصل مستمر مع بيئته وحاضره بل وحتى أحلام المستقبل. الإنسان كذلك يختلف عن بقية الكائنات الحية بقدرته على التواصل المعرفي المعقد عن طريق الكلام سواء كان ذلك مع إنسان واحد أو مجموعة من البشر، وله القدرة على الإدلاء بآرائه وتحدي آراء الآخرين والوصول إلى تسوية مع غيره فكرياً وفوق كل ذلك خيال وروايات لا حدود لها.
نموذج المحرك البخاري
النماذج النفسية لتفسير الحياة العاطفية للإنسان، سلوكه، وعقده النفسية تأثرت بظروف المرحلة وتاريخ البشرية، وخير مثال على ذلك المدرسة التحليلية النفسية Psychoanalytical School. كان القرن التاسع عشر هو عصر المحرك البخاري Steam Engine ولذلك نرى بأن هذا النموذج يستند على فكرة الكبت اللاشعوري للعقد النفسية وذلك يؤدي إلى زيادة الضغط. لكي تتخلص من ضغط البخار تقتح الصمام وفي المدرسة النفسية التحليلية تبحث عن هذا الصمام وتتخلص من دفاعاته النفسية اللاشعورية وتتتخلص من ضغط هذه العقد.
انقر الصورة لترى حجما أكبر
هذا النموذج المقتبس من اكتشاف علمي وتطبيقه في ذلك الزمن لم ينقرض تماما كما انقرضت المدرسة التحليلية. لا تزال الناس تستعمل النموذج في الحديث عن ضغوط الحياة المتعددة والأزمات الزوجية والعائلية والمهنية. كذلك يستعمل النموذج في إطار تفسير الأزمات السياسية.
نموذج الوقود والطاقة
تضائل أمر المحرك البخاري عالمياً وأصبح من آثار الحضارات العالمية تزوره في بعض المتاحف وتشاهد القطار القديم وربما يتم منحك الفرصة للقيام برحلة سريعة في قطار بخاري أثري. تم استحداث المحرك الذي يدفع بالسيارة والطائرة والصورايخ بفضل الوقود الحفري Fossil Fuels وتدريجيا أصبح علم النفس والطب النفسي يتحدث عن دور الدوبامين Dopamine في حيوية ونشاط واندفاع الكائن البشري، وصاحب ذلك الحديث عن الهرمون الذكري Testosterone تستوستيرون ودوره في اندفاع وتهور الإنسان، لا يزال نموذج الوقود والطاقة كثير الاستعمال في الإعلام النفسي والعام لتفسير السلوك والكسل والاندفاع.
انقر الصورة لترى حجما أكبر
النموذج الفكري
كان عقد الستينيات من القرن الماضي عصر تجديد الفكر الليبرالي الذي ولد من جديد بعد كارثة الحرب العالمية الثانية، حروب جنوب شرق اسيا، حركة الدول النامية، وتمرد الحركات الطلابية في أروبا. أصبحت الليبرالية أشبه بدين جديد في العالم يُؤْمِن بالإنسان الجبار وتم استحداث قيم جديدة جبارة Superhuman Values. الليبرالية تؤمن بالإنسان كمصدر للتشريع وتغيير الأفكار، ولا عجب أن نرى ولادة العلاج المعرفي (أو المعرفي السلوكي) في هذه الفترة. تم انتشار هذا النموذج حتى أصبحت الناس تتصور بأنه علاج كل مشكلة طبنفسية أو اجتماعية.
انقر الصورة لترى حجما أكبر
نموذج معالجة المعلومات
عالم الْيَوْمَ هو عالم نظام الحلول الحسابية Algorithmic System والذي يعرف أحيانا بنظام الخوارزمية. مصدر هذا المصطلح هو محمد بن موسى الخوارزمي الذي كان مفكراً في دار الحكمة في بغداد في القرن الثاني عشر. فصل الجبر عن الرياضيات وتم استعارة فكرته وترجمتها إلى Algebra وأما اسمه فقد تم استعارته لعمليات النظم الحسابية في عصرنا هذا ونسميه Algorithm .
انقر الصورة لترى حجما أكبر
هذه هي معادلة الحياة الجديدة. يولد الإنسان ويتم خزن معلومات معينة ويستجيب لها عبر معادلات رياضية سريعة ومتعددة يتجاوز تعدادها الألف. كان الفكر يركز على التمييز بين العقل Mind والدماغ Brain وأما الآن فإن هذا التمييز لا قيمة له وكل ما يحدث ويخزنه العقل يتم في الدماغ. كان ريني ديكارت يركز في فلسفته على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشعر ويحن ويعشق، وأن بقية الكائنات الحية تفتقر إلى هذا الوعي. هذه النظرية انتهى أمرها مع فلسفة أو علوم الخوارزمية.
هناك سيارة في طريقها إلى الأسواق تنقلك من مكان إلى آخر بدون أن تقودها، والطيار الآلي للطائرات الحديثة أكثر دقة من قائد الطائرة. هذه الاكتشافات تعتمد على قاعدة واحدة وهي أن هناك تجارب ورد فعل لها وبالتالي يتم خزنها كمعادلات رياضية تسيطر على ردود فعل الإنسان والآلة. بعبارة أخرى لا يوجد فرق بين عقل الإنسان وعقل الإنسان الآلي وربما سيتم خزن المشاعر وردود الفعل لها في المستقبل أيضاً.
رحلة الإنسان
الحياة رحلة يمضي فيها الإنسان من مكان إلى آخر. طريق الحياة لا يختلف كثيراً عن الطريق الذي يسلكه الإنسان في مركبته حين يواجه مشاكل في الطريق تؤدي إلى تأخير الرحلة لفترة وجيزة. مشاكل طرق المرور مشاكل وقتية تؤدي إلى تأخير الرحلة ولكن لا تؤدي إلى توقفها تماماً. عاجلا أو آجلا يتم حل مشكلة تأخير المرور وتمضي المركبات في رحلتها، وقد تسرع أحياناً لتصل في موعدها المقرر. كذلك الحال مع أزمات ومشاكل الطريق الذي يسلكه الإنسان صوب أهدافه.
مصدر الطاقة لرحلة الإنسان في الحياة ومحرك مركبته طاقته النفسية مهما كانت آليتها، التي تدفعه صوب هدفه. حين تتعثر رحلة الإنسان عليه أن يدرس آلية هذا المحرك وأسباب تعثر مسيرة مركبته. الكثير من الناس هذه الأيام تقود السيارة ولم ترى محركها وكذلك الإنسان فهو نادراً ما يفحص ويراجع سلامة محرك طاقته النفسية.
محرك مركبة الإنسان يعتمد على ماضيه وحاضره ومستقبله. هناك ذكريات الماضي التي يتمسك بها الإنسان رغم انتهاء تاريخ صلاحيتها، وهذه الذكريات تؤدي دوماً إلى تعطيل محرك الإنسان لأن انقضاء فترة صلاحية شيء ما في الحياة لا تعني سوى أن استعماله يؤدي إلى إلحاق الضرر.
ثم هناك قيود الحاضر التي هي أشبه بقيود تمنع الإنسان من الحركة. هناك نمط حياته وعلاقاته العائلية والاجتماعية والمهنية وجميعها تتحول إلى قيودٍ تمنع الإنسان من التحرك صوب أحلامه. رغم ذلك فإن مفتاح القيود النفسية دوماً بيد الإنسان ولا يصعب عليه فتح أقفالها والمضي قدماً في حياته.
ثم هناك المستقبل وهذا لا يتحكم به سوى الإنسان وخياله وطموحه. الأحلام حق مشروع ولا يستطيع أحد تسفيه ذلك، ولكن عليه أن يراجع إذا كان يمتلك المركبة التي ستصل به إلى هدفه.
وأخيراً على الإنسان أن يدرك دوماً بأن مركبته هي من تصميمه هو فقط وربما عليه تغييرها تماما لكي يصل إلى هدفه، وهو قادر على ذلك.
تعليقات الأعضاء