أولا : وسواس الطلاق القهري وساوس وقهور الطلاق:
موضوع الطلاق هو موضوع ذو خصوصية فقهية ويعتبر أحد أهم الأمثلة على أهمية فهم ضرورة إعفاء مريض الوسواس القهري من التفتيش في دواخله، فالشرع يجعل لكلمة "طالق" -حين يقولها عاقل- قوة نافذة تهد بيتا وأسرة لأن لهذه الكلمة قوةً يشهد عليها الله ... كلمة طالق إذن لها قوة غير عادية وحين تتفاعل الخصائص المعرفية لمريض الوسواس القهري مع الخصوصية الفقهية للطلاق فإن هذا بالنسبة للموسوس فخ كبير! لأن مريض الوسواس القهري عاقل.... وليس عادة في إغلاق وهو ما يعني أنه يستكمل شروط المطلق فقهيا من وجهة نظره على الأقل.
ومريض وسواس الطلاق القهري "هذا العاقل أصلا وفعلا" لديه كأغلب مرضى الوسواس القهري ميل للقناعة بالقوة السحرية للكلمات أو الأفكار أو الحروف...... وقابلية عالية للشك في معلوماته الداخلية حيث يدفعه الوسواس إلى التذكر ثم الشك في ما تذكر.... فضلا عن وجود تحيز معرفي لديه لإغفال بعض الحقائق أو المقدمات أثناء التفكير.... ولمريض الوسواس كذلك نزوع للتفكير الترابطي حيث يربط أشياء ببعضها بطريقة لا عقلانية لكنها بالنسبة له تمثل قناعة وسواسية وهذا النوع من التفكير هو شكل مميز منْ الوساوس اللاعقلانية.... فإذا أضفنا لذلك أن هذا المريض حين يشتد عليه الوسواس أو الكروب تكون لديه قابلية عالية للانفصال أو الانشقاق.... أي خبرات حقيقية بالانفصال عن نفسه أو عن داخله أو دواخله.... بما يتواتر فيه حدوث نسيان أو خطأ إدراكي ما.... وهذه الخصائص المعرفية ليست مقصورة على مرضى الوسواس القهري بل في اضطرابات نفسية أخرى وهي موجودة أيضًا في عموم الناس، لكن لها مع مريض الوسواس شأن خاص لأنها تستطيع توجيه تفكيره حتى يوسوس..... وقد فصلنا في شرح هذه الخصائص وعرض نماذج ما ورد إلى استشارات مجانين من موسوسين بالطلاق في ردنا على مشاركة د. محمد أحمد الفضل الخاني ... ولم تردنا استشارة بعدها إلا أنا وزوجتي ووسواس الطلاق !.
ونحن في هذا المقال نحاول تأمل كيف يتفاعل الموسوس بخصائصه المعرفية أعلاه مع موضوع الطلاق وما يشيع على الألسنة من أحاديث، فنجد له تفاعلا مع شكلين من أشكال الطلاق أو أنواعه أولها هو الطلاق الصريح وثانيها هو طلاق الكناية .... وتظهر الفئتان تحاشيا متفاوتا ومتباينا تنبني عليه أغلب الأعراض القهرية أي أنها في مجملها تهدف للتحاشي، فمثلا يظهر المرضى من الفئة المتفاعلة مع الطلاق الصريح رعبا شديدا وتحاشيا لحرف الطاء ما استطاعوا ناهيك عن تحاشيهم لكل تصريفات الفعل طلق (طلاق، طالق، مطلق) ....إلخ.. يظهر هذا التحاشي أول ما يظهر للمعالج النفساني في شكوى المريض بوسواس الطلاق فهو يحاول بكل وسيلة أن يوصل لك المشكلة دون أن يسميها أي دون أن يضطر للتلفظ بها، وبين المرسلين لصفحة استشارات مجانين من تحاشى كتابة لفظ الطلاق .... إذن فالتحاشي هو آلية الوسوسة الأولى والفاعلة دائما في حالات وسواس الطلاق، كما سأبين في السطور التالية:
(1) التحاشي للفظ الصريح وللكناية:
لا يقتصر التحاشي على ما يلمحه المعالج النفساني ربما في اللقاء الأول من تحاشي كلمة طالق أو طلاق أو حتى حرف الطاء إن استطاع وإنما تجده في حياة المريض أوسع بكثير فهناك مثلا من يتحاشى الرقم ثلاثة مخافة وقوع الطلاق البائن أو حتى لمجرد اقتران 3 + طلاق في تعبير طلقتك ثلاثا..... وهناك من يتحاشى كلمة "أنت" مخافة أن يلحقها الوسواس بكلمة طالق في وعيه ... وربما الأمثلة لا تنتهي ولكن المعنى وصل.
1- مراقبة الكلام
تعتبر مراقبة الكلام شكلا من أشكال التحاشي المبكر والمتزامن مع الكلام ولا تكون فقط على مستوى الكلمات (طالق أو ما يشبهها كطارق وطلاق أو ما يشبهها كطلال) وإنما أيضًا على مستوى الحروف مخافة وقوع ترتيب لحرف طاء في كلمة ولام في التي تليها وقاف في الكلمة الثالثة وتكون طالق أو طلاق اكتملت ... لا تكون المراقبة فقط مع الزوجة وإنما مع الزملاء في العمل والأصدقاء والجيران... بل إن منهم من يخاف حدوث الطلاق إذا رأى في الحلم نفسه يطلق.
2- إغلاق الشفتين بقوة :
هذا أيضًا من الأشكال الشائعة وعادة ما يستبد هذا الوسواس بالمريض في مواقف معينة في حياته ليس فقط وهو مع الزوجة وإنما قد يكون هذا وهو في أي مكان مثلا يأتيه الوسواس في السوق إن لم تشترِ كذا فسوف تطلق زوجتك وكثيرا ما يكون المعني شراؤه مرهقا لكاهل المريض اقتصاديا ... فيزم المسكين على شفتيه ويبقى خائفا حتى يقع في الشك قلت أم لم أقل.. وهناك من يأتيه مثلا وهو يلعب مع رفاقه لعبة ما فيكون الوسواس إن لم تكن الرابح فسوف تطلق زوجتك ...
3- محاولات التذكر مراجعة الكلام:
يبدأ الوسواس بأي سؤال يتعلق بالطلاق ويستلزم أن يحاول المريض التذكر وفضلا عن كل ما يعترض طريق الموسوس إلى ذاكرته لينتهي بالشك فيها، تعمل خاصية التحيز المعرفي لإغفال بعض الحقائق أو المقدمات... فرغم أن التلفظ بالطلاق لا يكتسب القوة إلا بشروط عديدة فإن الموسوس أميل من غيره إلى إغفال ذلك وقد رأيت من كان يتحرى في حروف كلامه مع الناس في العمل مخافة أن تأتي "ط" في كلمة ثم "ا" ثم "ل" ثم "ق".... وأحدهم لم يكن يرى أنه يشترط الترتيب! ... وكأن يمكن أن تطلق الزوجة لهذا الشكل.
4- وساوس وقهور الربط الوسواسي ثم التحاشي:
واحدة من خصائص مرضى الوسواس المعرفية هي النزوع للتفكير الترابطي الذي يربط ما لاعلاقة له ببعضه، وهو شكل مميز مِنْ اللا عقلانيةِ.... عملية شمولية تَبْحثُ عن العِلاقاتِ وتعطي قناعة بوجود ارتباط بين فعل ما أو قول ما وحدث ما دون وصلة سببية ظاهرة، ويمكن أن يحتوي قدرا كبيرا مِنْ الغموضِ والتناقض، فتجد الوسواس هو ربط شيء أو فعل ما بالطلاق دون أي سبب منطقي ثم يكون الفعل القهري هو التحاشي المستمر لذلك الفعل حتى ولو كان دخول البيت من الباب! .. وقد رأيت من كانت وسوسته هكذا: إذا دخلت الشارع اليمين تصبح زوجتك طالق... فيضطر للدخول في الشارع على اليسار... أو إذا اشتريت تفاحا تصبح زوجتك طالق فيحرم شراء التفاح على نفسه! وسمعت من كان يشعر أن كل كلمة يتفوه بها يشعر ويحس كأنه يقصد بها بها الطلاق.... وكأن القصد والشعور والإحساس الداخلي يمكن أن يطلق ما دام ارتبط بالطلاق في ذهن الموسوس....
وممما يعتبر شكلا من أشكال تحاشي الطلاق في النساء نجد من تتحاشى مقابلة أو ملامسة أي امرأة طلقت (وربما شمل التحاشي أسرة المطلقة كلها).....أو أي رجل طلق (وربما أسرته كلها أيضًا) وأحيانا يصل التعميم إلى تحاشي ليس فقط من وقعوا في الطلاق وإنما أصحاب العلاقات الزوجية ذات المشكلات المزمنة باعتبارها قد تؤدي للطلاق!.
(2) وساوس وقهور التلفظ بالطلاق :
عندما يتلفظ مريض وسواس الطلاق بالطلاق أو كناياته الصريحة بدلا من التحاشي فإن ذلك لا يكون في حالته الطبيعية وإنما تحت تأثير الانفصال أو الانشقاق المعرفي إذ يميل الموسوس معرفيا وشعوريا إلى الانفصال أو الانشقاق خاصة تحت تأثير الكرب المعرفي المصاحب للوسوسة.... فهنا يضغط الوسواس على مريض وسواس الطلاق بأن -إثر خلاف معين بينه وبين الزوجة أو أهلها- يتخيل نفسه يطلقها ... وربما بشدة انفعال المريض تكون شدة الاستجابة فهو هنا يكلم نفسه بحجة التنفيس كما دفعه الوسواس... ثم يوقعه الوسواس بأن الطلاق هكذا ربما وقع ... ويدخل المسكين في دوامة قلت ؟ لم أقل ؟ .. أو وقع ؟ لم يقع ؟ ..... وأغلب هؤلاء يطرقون أبواب دور الإفتاء أو المصرح لهم بالفتوى في هذه الأمور ... أي وهم في مرحلة الشك في القول من عدمه ... لكن بعضهم يذهب أبعد فيجد نفسه ضائقا بحالة الحيرة في وقوع الطلاق من عدمه إلى حد أن يطلق زوجته ليتخلص من الوسواس.
وتختلف شدة الانفصال من خفيف ربما يصلح لتفسير ما أشرنا إليه أعلاه من القابلية العالية للشك في المعلومات الداخلية، إلى انفصال شديد ترى فيه الموسوس يشعر بأن قوة من داخله تنفصل عن إرادته جزئيا أو كليا وأن الكلمات بالتالي ربما تقال داخله وربما رغما عنه تحرك لسانه ويتفوه بها ولذلك يغلق بل يلصق فكيه أو يضع قطعة من القماش في فمه....
التلفظ بالطلاق في مرضى الوسواس المتعلق بعرات توريت :
مرض أو متلازمة أو اضطراب توريت هو اضطراب نفسعصبي يحدث فيه نوعان من العرات (اللوازم المتكررة) هما النوع الحركي والنوع الصوتي والتي تنتج عن تشنجات لاإرادية متعددة ومتكررة. والتشنجات اللاإرادية تحدث أصواتا مفاجئة لا إرادية وغير مقصودة أو تنتج هزّات حركية عضلية.... كالغمز ولي العنق أو البحلقة ..إلخ وهناك شكلان للعرات الصوتية هما البسيطة والمركبة فأما البسيطة فمثل الهسهسة أو الهوهوة أو البسبسة أو السعال وأما العرات الصوتية المركبة فغالبا ما تشمل كلمة أو جملة من السباب أو الكلام القبيح، أو تكرار جمل الآخرين أو جمل أو كلمات الشخص نفسه.... وهو مرض أغلب حالاته وراثية ومن جين سائد، لكن ما يهمنا هنا هو المريض المصاب باضطراب توريت واضطراب الوسواس القهري معا حين يتحد الوسواس وتوريت وبحيلة وسواسية تصبح لفظة الطلاق أو بعض كناياته عرات صوتية ؟ وهي حالات موجودة وإن لم تكن من الكثرة بما يشجع دراستها.
القسم على النفس بالطلاق:
هذه حيلة أخرى يلجأ لها الوسواس فيقنع المريض الذي يريد منع نفسه من سلوك ما بأن يحلف أن سيطلق امرأته إن مثلا اشترى كذا (مثلا ساعة ثمينة عند جامعي الساعات من مرضى الوسواس، أو حتى كيلو مانجو ولم يشتر العنب !) أو فعل كذا (مثلا رؤية الأفلام الإباحية) أو لم ينجح في كذا...إلخ، وهناك كذلك من يقسم على نفسه ألا يكرر الوضوء أو الصلاة أو أيا من القهورات الكثيرة في حياة مريض الوسواس.... إلخ
وبالرغم من وجود حالات يكون فيها التلفظ بالطلاق بمثابة الفعل القهري (أو ما يعادله) الذي يريح المريض، إلا أن الموسوس بالطلاق يكون أميل دائمًا إلى التحاشي المفرط للتلفظ بكلمة الطلاق منه إلى تكرارها كفعل قهري، بمعنى آخر تدور معظم الأفعال القهرية في الموسوس بالطلاق حول الامتناع عن التلفظ به، أو بما يمكن أن يكون كناية للطلاق أو ما يرتبط ولو عشوائيًّا بالطلاق في ذهن الموسوس، وهي ما يعني أننا لا نخاف من وقوع الطلاق فقهيًّا..... ولابد هنا من نقل بعض ما يقول ابن القيم في زاد المعاد عن الهازل في الطلاق: (الفرق بين من قصد اللفظ وهو عالم به ولم يرد حكمه وبين من لم يقصد ولم يعلم معناه فالمراتب التي اعتبرها الشارع أربعة: إحداها : أن يقصد الحكم ولا يتلفظ به، الثانية : أن لا يقصد اللفظ ولا حكمه، الثالثة : أن يقصد اللفظ دون حكمه، والرابعة : أن يقصد اللفظ والحكم .فالأوليان لغو، والآخرتان معتبرتان، .ا.هـ.) ومريض الوسواس القهري الذي يضطر إلى التلفظ يقع في المرتبة الثانية فلا يقصد اللفظ، أو الثالثة وإن كان هنا –لا يقصد التلفظ بالطلاق بل يكره عليه- وبالتالي لا يقصد حكمه....
ثانيًا : وسواس الخلع القهري وساوس وقهور الخلع:
بالضبط كما يقع الرجل المريض بالوسواس في فخ القوة السحرية لكلمة طالق أو نية الطلاق فإن المرأة المريضة بالوسواس تقع في فخ القوة السحرية لكلمة خلعت فتعاملها كما يعامل المريض الرجل لفظ الطلاق .... ولا يختلف ما تلجأ له مريضة وسواس الخلع عن ما يلجأ له المريض الرجل.... فيكون التحاشي بكل أشكاله الواردة أعلاه ..... ولم أر موسوسة بالخلع يكون التلفظ به فعلا قهريا في حالتها.... وهي في المجمل حالات قليلة.
ثالثًا : وسواس الزواج القهري ! وساوس وقهور الزواج :
سماع صيغة عقد الزواج أو تذكر التلفظ بها بعد سماع الفتوى نفسها المبنية على حديث سيد الخلق ثلاث هزلهن جد وجدهن هزل .... ويكون الوسواس أنها تزوجت ولم تكن تدري مثلا وهي طالبة من صديقها بترديد الصيغة إثباتا للوفاء أو غير ذلك ورغم أنها لم تكن تقصد الزواج وإنما نية الزواج من فلان هذا .. إلا أن الوسواس يشككها فيما كانت تقصد وفي قوة الصيغة النافذة... فتبدأ تبحث عن الفتوى، وتنغمس في أفعال التذكر القهري وفي طرح الاحتمالات وتفنيدها والسؤال فقهيا عن كل احتمال ... وهكذا وهناك من توسوس بأنها ستتزوج لمجرد سماعها صيغة عقد الزواج في مسجد أو في عرس أو حفل زواج ... وهناك من توسوس بأن ما دار بينها وبين خطيبها السابق على الواتساب أو مرسال الفيس أو غيره من أن يقول لها مثلا أنت زوجتي وتشعر هي أنها لا تمانع ... فتتساءل هل وقع العقد ؟ ثم توسوس فتسأل وتستفتي وتحاول التذكر ...إلخ أو التي تذكرت إعجاب مدرسها بها وهي في الثانوية ولا تتذكر بالضبط هل طلب منها الزواج فتتساءل هل يمكن أن يكون وقع العقد رغم أني لا أتذكر!؟ وتوسوس فتسأل وتستفتي وتحاول التذكر ...إلخ.
في هذه الأشكال الثلاثة من الوسواس القهري وأشهرها هو وسواس الطلاق يتميز مناخ الحالة دائما بالخوف الشديد من الوقوع في الحرام والآثار المترتبة على ضياع الزوجة أو الزوج وانهيار الأسرة.... ويتميز أغلب المرضى بالتورع الشديد في أمر العلاقة الزوجية من كافة جوانبها .... وهذا بلا شك مسؤول عن جزء كبير من الأعراض الإكلينيكية التي تتسم بالخوف الشديد والحرص على التذكر والتأكد وكلها بمثابة أبواب يدخل منها الوسواس.
واقرأ أيضًا:
ما هو الوسواس القهري ؟؟ / الطلاق تحد مختلف / الطلاق المتحضر (تسريح بإحسان)