في القرن الماضي أمضيت بضعة أشهر في عمّان وكان معظم وقتي في مكتبة أمانة عمان، وفي مكتبة جامع الملك عبدالله في الطابق السفلي. وفي هذه المكتبة اطلعت على أمهات الكتب التراثية وحاولت أن أقرأ ما استطعت منها، والدهشة تحفني والحيرة تغمرني، والأسئلة تتوافد في مخيلتي تبحث عن جواب قد أدركته بعد أسابيع وأسابيع في المكتبة، مفاده أن لا يمكن لشخص بمفرده أن يستوعب ما كتبته الأجيال في مواضيع الدين مهما توهم وتصور، فما هو مكتوب ومحفوظ في موسوعات ومجلدات هو حصيلة اجتهاد ومثابرة أجيال وأجيال، ومن غير المنطقي والواقعي أن يدّعي شخص بأنه يعرف ومطلع على ما كتبته الأجيال، لأنه يحتاج إلى أضعاف أضعاف عمره لكي يتمكن من بعضه وحسب.
وهذا الشعور أخذني إلى قناعة تكاد تكون راسخة بأن لا يوجد معمم يعرف، لأنه بالمقارنة إلى الكم الهائل من المعارف المسطورة يبدو جاهلا وقاصرا، وعليه أن يعترف بضعفه وعدم قدرته على استيعاب العلوم المتوارثة بتفرعاتها ومنطلقاتها، وما استجد فيها في نهر الأجيال المتفاعلة معها كل بقدر استطاعته.
ومهما بلغ الشخص من درجة علمية وإبحار في الدين وإغراقٍ في التأمل والتفكر، فإنه يبقى قاصرا وضئيلا، ولا يمكنه أن يكون مصدرا خالصا للرأي والنظر في أي موضوع ديني، وإنما عليه أن يعرف حدوده ويتصرف وفقا لتواضع ما عنده من العلم.
أستعيد هذا الموقف والنظر كلما رأيت معمما في بداية العمر يتمنطق وكأنه من العارفين، ويحسب أنه يدري وغيره لا يدري، والعجيب في الأمر أن معظم ذوي العمائم يتصورون أنهم العارفون والآخرين من حولهم لا يعرفون، ويجيزون لأنفسهم التحدث في موضوعات هم من أجهل الجاهلين فيها، لكنهم يظنون بأنهم من أعلم العلماء.
بل إن العديد من الشباب المعمم الذين يتحدثون في وسائل الإعلام ويديرون الندوات، يفترسهم وهم المعرفة والإحاطة بالعلوم الدينية، وما عندهم نزير وضعيف، لكنهم مشحونون بالعواطف والانفعالات الصلدة التي يتمترسون فيها، فتجدهم ينتفضون بوجهك لأنهم لا يمتلكون الدراية الكافية التي تؤهلهم للتحاجج والتفاعل الفكري والمنطقي السليم، فإياك أن تناقشهم لأنهم سيحسبون ذلك اعتداءً على حرمات مقامهم المتصور، ومنهجهم المنوَّر.
والأمر المدمر للدين أنهم لا يعرفون ويعرفون أنهم يعرفون، وتلك مصيبة الدين بذوي الرؤوس المعممة بالجهل المبين.
فهل سيعرفون بأنهم لا يعرفون؟!!
1\2\2020
واقرأ أيضاً:
التجديد والتشديد!! / التأخر خيار العرب وبعض المسلمين!! / عصور السطوة!!