بيت الحكمة بدأ إنشاؤها في زمن هارون الرشيد (170 – 193) هجرية، وتألقت في زمن المأمون (198 – 218) هجرية، ومدة سطوعها الحقيقية ربما كانت لعقدين، وهي فترة خلافة المأمون، وبعد ذلك أصابها الإهمال التدريجي، وتآفل دورها وخمدت أنوارها المعرفية.
وبعد انتقال العاصمة إلى سامراء تآكل بيت الحكمة، وانتشر العلماء والمترجمون الذين كانوا مكدسين في بغداد، وتوزعوا في حواضر الدولة العباسية وإماراتها، التي أخذت تنفصل عن إرادة المركز فيما بعد.
وأكثرهم أنشأ بيت حكمته الصغير الخاص به، وتحوّلت الجوامع والمساجد إلى مواطن للكتب والمخطوطات، ونشطت حركة النسخ، ولا يوجد كتاب في بيت الحكمة لم يُنسخ ويُنشر في أرجاء الدولة. فدور بيت الحكمة الفعلي قد استمر لنصف قرن أو يزيد بقليل، أي من (170) هجرية إلى (222) هجرية، وهولاكو جاء إلى بغداد بعد مقتل المتوكل (247) هجرية، بما يقرب من أربعة قرون في (659) هجرية.
فالقول بأن بيت الحكمة بقي لأكثر من أربعة قرون يضم المخطوطات، التي وجدت فيه أيام المأمون فيه نظر، ولا يعقل ولا يتوافق مع سلوكنا الذي لا يرحم القديم. إن ما نقرأه بأن التتار قد ألقوا الكتب في نهر دجلة حتى تغير لون مائه، فيه تهويل ولا معقول، فإذا أرادوا تدمير بيت الحكمة فمن الأسهل لهم حرقه، بدلا من رمي الكتب في النهر، وهم قد أحرقوا معظم المدينة للخلاص من الأمراض والأوبئة، التي انتشرت بسبب تكدس الجثث في الشوارع.
والتضليل الساري في وعينا الجمعي هدفه، القول بأن العرب لا توجد لديهم مخطوطات توثق إنتاجهم العلمي المتنوع السبّاق، لأن التتار قد أجهزوا على بيت الحكمة، والواقع أن المخطوطات العربية مخبوءة في المكتبات والمتاحف العالمية، ولم يتم تحقيق إلا أقل من نسبة 5% منها، والنسبة العظمى تنام في ظلمات الخزائن. فالعرب تركوا ملايين المخطوطات، لأن صناعة الكتاب والنسخ كانت نشاطات مشهورة ومنتعشة في ذلك الزمان.
وكانت بيت الحكمة المصدر الأساسي للكتب الجديدة، التي يتم نسخها وبيعها وإيصالها إلى الحواضر العباسية، بل وإلى بلاد الأندلس أيضا. فالقول بأن النسبة الكبيرة من المخطوطات العربية قد أكلها ماء دجلة، تضليل وافتراء لا دليل قاطع يثبته، فلا يمكن التصديق في ذلك الزمان أن الكتب التي تنقل على ظهور الحمير والبغال أن تتكدس في النهر، وهو في ذروة عنفوانه الجرياني آنذاك، وحتى في عصرنا الحالي لا يمكن حصول ذلك لو جلبنا الكتب بشاحنات وبمئات الأطنان.
فعندما يتحدثون عن بغداد يحسبونها وكأنها في زمن هارون الرشيد، وعن دار الحكمة وكأنها في زمن المأمون، والغزو قد حصل بعد أكثر من أربعة قرون من زمانهما!!
هذا ما تبديه القراءة الموضوعية لهولاكو وبيت الحكمة، فهل من دليل وبرهان يبين غير ذلك، أم أن المدوّن المنقول بتكرار صار من الثوابت الدامغة؟!!
واقرأ أيضا:
المكتبات!! / الشعراء والموت المبكر!!
