الحج من العبادات ذات التأثيرات الهائلة في عالم النفس والروح، إذ هو بمثابة إعادة ولادة من جديد، بعد مسح البرامج النفسية المضطربة والمشوهة، وإعادة البرمجة في ظروف روحانية سامية تصاحب الشخص بقية حياته إن أخلص النية وأحسن العمل، وفيما يلي سنذكر بعضا من هذه العمليات النفسية والروحية في رحلة الحج :
• حين يغتسل الحاج غسل الإحرام يشعر ببرودة الماء تطفئ لهيب الغرائز، ويشعر بذنوبه تتساقط مع قطر الماء، وحين يلبس الرداء والإزار الأبيضين الناصعين يشعر بأنه تخلص من أطماع الدنيا بما تحمله من أدران وأثقال كثيرة كانت جاثمة على صدره، وأنه صار أخف وزنا وأكثر قدرة على الحركة، وكأنه سيطير محلقا نحو السماء.
• حين يسلك الدروب في الأرض الصحراوية متوجها نحو المشاعر المقدسة يشعر الحاج بضآلة انشغالاته وهمومه، بل ويشعر بضآلة الدنيا كلها حين يسير في أرض ممتدة وشاسعة تحوطها جبال شاهقة، وربما جعل الحج في هذه المنطقة الصحراوية الجدباء من الأرض لتذكر الإنسان بالموت والعدم والآخرة، وتأخذه بعيدا عن مباهج الحياة وترفها.
• حين تقع عين الحاج على الكعبة لأول مرة يشعر بمهابة وجلال، فهاهي الكعبة التي جعلها الله قياما للناس تتوسط البيت الحرام، وكأنها مركز الأرض أو مركز الكون يدور الناس حولها في اتجاه واحد، ومن خلال هذا الدوران وما يواكبه من دعاء وتضرع يعاد تشكيل هذه النفوس المتعلقة بالبيت، تلك النفوس التي طالما اضطرمت بصراعات في اتجاهات شتى، ها هي الآن بهذا الدوران المنتظم تتناثر منها الكثير من الأحاسيس والمشاعر السلبية مثل الحقد والحسد والكراهية والغضب والعدوان، ويعاد تشكيل المنظومة النفسية والمفاهيم والتصورات الداخلية طبقا لما يردده الحجيج ويسمعونه من استغفار وتوبة ودعاء في اتجاه واحد وحول مركز واحد هو الكعبة، ومع توالي الأشواط السبعة يتكون في النفس ما يسمى بالفكرة المركزية التي تحفظ للشخصية تماسكها وتوازنها وتناغمها.
• والارتقاء نحو الصفا ثم السعي نحو المروه ومعاودة الارتقاء والسعي سبعة أشواط، ربما يكون درسا نفسيا وروحيا للتدريب على معاودة الارتقاء والسعي نحو معالي الأمور لكي تتحقق معاني الخلافة في الأرض من حركة دائبة ينتج عنها عمران وعبادة سعيا لوجه الله الكريم.
• ومع كثرة التلبية والتسبيح والتهليل والدعاء تتشكل برامج جديدة في النفس تدور كلها حول الفكرة المركزية (التوحيد) التي وضعت بذرتها أثناء الطواف سبعة أشواط حول الكعبة وترسخت في السعي بين الصفا والمروة.
• والوقوف في صعيد عرفات تحت حرارة الشمس يذكرنا بالموقف الأكبر يوم القيامة وكأن أرض عرفات هي نموذج مصغر لأرض المحشر، وهنا تتوارى انشغالات وتعلقات دنيوية كثيرة كانت تسيطر على النفس ولا يبقى إلا ذلك الإنسان الضعيف المتجرد من زينة الدنيا يقف رافعا وجهه وكفيه إلى السماء تائبا ومتضرعا وخاشعا من هول الموقف.
• ونفرة الحجيج من عرفات إلى المزدلفة حيث الزحام الشديد والعرق الغزير يعيد التذكير بيوم النشور، وكأن الطريق من عرفات إلى المزدلفة مثل الصراط، والكل يعبره ليصل إلى أرض المزدلفة ليصلي المغرب والعشاء، ثم يتمدد الجميع نوما على الأرض وعلى امتداد البصر يلبسون لباس الإحرام لا تعرف منهم الصغير أو الكبير، الغني أو الفقير، فقد استوى كل شيء على تراب المزدلفة.
• ومعاودة رمي الجمرات سبعا في جمرة العقبة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة تحمل معنى معاودة إغواءات الشيطان بما يستدعي معاودة التوبة والحذر من وساوس النفس والشيطان التي لا تنتهي ماكان الإنسان حيا.
• والحج يتميز بأنه عبادة شاملة تستغرق نشاطات جسدية هائلة ونشاطات نفسية متعددة الجوانب والمستويات وسبحات روحية تحلق نحو السماوات العلى، ولهذا يعود الحاج وكأنه ولد من جديد، وقد أعيد ترتيب النفس من الداخل بعد إزالة الأنقاض الكثيرة وتكوين منظومة نفسية جديدة خالية من الصراعات المجهدة وعلائق الدنيا الغرورة، خالية من الكبر الذي ذاب تحت حرارة الشمس وتكسر مع النوم على الأرض، وفزع في موقف عرفه، وانهزم الشيطان والهوى عند الجمرات، وعاد الحاج بصفحة بيضاء ناصعة.
واقرأ أيضًا:
القلب والمخ (حقائق وأسرار جديدة) / الخوف وتأثيره في سلوك الناس