بلغ السيل الزبا ... وأصبح الأمر كأنها معادلة صفرية خرقاء وإسرائيل لا ترعوي عن فعل ليس فقط لأنها محمية بالفيتو الأمريكي على الأقل وإنما لأن عقيدتهم الفاسدة أنهم أصحاب الأرض ... أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ! بهذه الأكذوبة التاريخية هم يؤمنون ! لذلك تراهم في كثير من الأحيان يتصرفون وكأن الفلسطيني غير موجود أصلا ... وربما يساعد ذلك في تخفيف مشاعر الذنب التي لابد تنشأ ما داموا من بني البشر...
في هجومهم هذا يتجلى واضحا ما سمعته من أهل غزة حين نعمت بهوائها ومائها 4 أيام بلياليها سنة 2009 حيث كانت عبارة الحقد الصهيوني تتكرر على ألسنة أهل غزة ... وكنت أيامها غير مدرك لعمق الكلمة .. فالظاهر لك أن أناسا فقراء وعزل بلا سلاح بينما الصهيوني مدجج بالمال والسلاح والدعم من أشرس دول العالم فكيف الحقد ؟ ربما هو الطمع والشره والرغبة في احتلال الأرض التي يرونها بلا شعب !! .. هكذا أذكر أني قلت لنفسي لكنني –وغيري كثيرون- رأوا هذه المرة ما يفضح فعلا حقدهم وغلهم فلا تفسير مقنعا لتدميرهم أبراج غزة إلا الحقد لكأنهم يحقدون ويستكثرون على أهل غزة المحاصرة الجريحة أن تكون في بلدهم أبراج ... تشعر أن ماردا أحمق غبيا خربشه طفلٌ صغير فظل يضربه حتى قضى عليه ! .... حقيقة الأمر أن إسرائيل رغم كل ما تبديه من جبروت هي في حالة الصدمة من وجود الفلسطيني (مجرد وجوده) ثم من مقاومته التي لا تلين !! إسرائيل في منتهى الإحباط ولعل هذا يفسر همجية العدوان وعبثيته إذ ما معنى هدم أبراج سكنية ؟؟!!
واقعيا فإن الرؤية التي تقتصر على ما يحدث اليوم من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي (جانب لديه العدة والعتاد والتواصل الحر مع العالم وجانب محاصر من البر والبحر والجو ولا سلاح لديه إلا ما يصنعه بنفسه ومن الخامات المحلية، تستطيع إسرائيل أن تدمر كل شيء ولا تستطيع المقاومة إلا ترويعها بالصواريخ التي وإن تطورت وزاد مداها وقدرتها التدميرية فإنها تبقى خارج المنافسة مع ما تملكه إسرائيل) فقد ترى الصمود والإباء والعزة لكن هذه الرؤية تبقى قاصرة فلا تكفي لبيان الحقيقة الكاملة والتي باتت تدركها إسرائيل جيدا.... والرؤية الصحيحة هي رؤية الصراع بين المقاومة وإسرائيل في مساره الطولي فهنا فقط سنرى الحقيقة المذهلة.
في 28 يونيو/ حزيران عام 2006، شُنت أول حرب بعد فك الارتباط بين القطاع والاحتلال. وبدأت إثر أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وأدت إلى استشهاد 402 فلسطيني ومقتل 11 إسرائيليًا...... ثم بعد عامين تقريبًا، وتحديدًا في 27 ديسمبر/ كانون الأول من عام 2008 شنت إسرائيل حربًا شاملة سمّتها "الرصاص المصبوب" وسمّتها حماس "حرب الفرقان".استمرت الحرب 21 يومًا وأسفرت عن سقوط 1400 شهيد فلسطيني ومقتل 13 إسرائيليًا، وفي في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2012، شنت إسرائيل حرب "عامود السحاب" وفق التسمية الإسرائيلية و"حجارة السجّيل" بحسب ما أطلقت عليها "حماس"، وأسفرت عن سقوط 112 شهيدًا فلسطينيًا ومقتل 6 إسرائيليين، أما ما اعتبر أكثر الحروب دموية على القطاع، فهو ذاك الذي شنته إسرائيل في 8 يوليو/ تموز عام 2014، واستمر 51 يومًا وأدى إلى استشهاد 1800 فلسطينيّ ومقتل 66 إسرائيليًا..... ثم كانت هذه الحرب الأخيرة التي ما تزال مستمرة.
ما تفعله إسرائيل طوال تلك الحروب حقيقة لم يختلف كثيرا في كل مرة نفس الشيء وإن زادت وحشيتها منذ حرب 2014 فهي تستخدم طائراتها لتصب القنابل والصورايخ على المدنيين العزل بلا رادع.... لكن الأمر يختلف تماما بالنسبة للمقاومة فبعد أن كانت قدرات غزة الصارروخية متواضعة جدا بما كان يسمح للبعض بالسخرية منها واعتبارها مجرد ألعاب نارية تطال بالكثير المستوطنات المتاخمة لغزة .... فوجئ الجميع في حرب 2014 بأن تل الربيع (الاسم الفلسطيني لتل أبيب) أصبحت في مرمى صواريخ المقاومة ... أغلق مطار بن جوريون بوابة إسرائيل على العالم .... وأصبح واضحا أن خنق المقاومة لا يفيد في منعها من التطور... وأصبحت في يد المقاومة أوراق ضغط حقيقية في أي اتفاقات هدنة تجري عب وسطاء.... ثم جاءت هذه الحرب الأخيرة لنجد الصواريخ أصبحت أكثر عددا ومدى ثم وإمكانية توجيه (بعد أن كانت عشوائية) بل ويضاف لها الصاروخ الذي يصل مداه إلى 250 كم .... ثم هناك الطائرات بدون طيار... ثم هناك التورربيدات القادرة على حمل متفجرات... ولعل هناك غيرها.... لكن الأهم من نوعية الأسلحة هو أنها تصنع في غزة وبأيدٍ فلسطينية ومن خامات محلية فلا فضل لأمريكا ولا لغيرها.... هذا الذي لم ولا يتوفر لأي من الجيوش العربية.
الأكيد كذلك أن قدرة المقاومة على تطويرنفسها بهذا الشكل لها معنى واحد بالنسبة لإسرائيل هو الإخفاق في كل حروبها السابقة فهي لم تحقق أهدافها المعلنة لا في 2008/2009 ولا في 2012 ولا 2014 وهي الحروب الكبرى الثلاثة على غزة وهدفت كلها إلى شل قدرة المقاومة وتأمين إسرائيل... ونستطيع بكل ثقة أن نضم الحرب الرابعة لسلسلة الإخفاق الممتد... فبالفعل امتد الإخفاق ليشمل ما أنجزته إسرائيل على جانبها لتحمي المستوطنين وهو القبة الحديدية التي استطاعت تكتيكات المقاومة أن تجعلها كالصفيح المثقوب.... فإذا كانت إسرائيل تعرف أنها أخفقت هل تراها غيرت أسلوبها ؟؟ بالطبع لا لأنه فقط هو ما تستطيع فعله القصف بالطائرات من بعيد .... فالاقتحام البري لا يطيقه جيش العدو وعمليا لا يجرؤ على اتخاذ القرار به أحد من الصهاينة... إذن فقد فضحت المقاومة المحاصرة هشاشة الأمن الإسرائيلي وأثبتت عجز جيشها.
كانت حقيقة قدرة الجيوش غير النظامية (مقارنة بالنظامية) على هزيمة إسرائيل منذ الحرب مفاجأة أظهرها حزب الله في لبنان في حرب 2006 وكانت حماس هي الأقرب شبها من ناحية عدم انتمائها لأي نظام عربي... لكن قدرات حماس والمقاومة الفلسطينية بشكل عام على النيل من إسرائيل لم تظهر بالشكل الذي يذهل العالم إلا ربما منذ حرب 2014 عندما هتكت صواريخ حماس بكارة سماء تل أبيب وأغلق مطار بن جوريون بعدما أحجمت شركات طيران عدة عن المخاطرة بالتوجه إلى إسرائيل .... وكان مفهوما أن الحصار الخانق المفروض على غزة يمنع المقاومة الفلسطينية في القطاع من تطوير نفسها بما يمكنها من إيلام العدو الصهيوني مقارنة بحزب الله في لبنان.
وكأن إسرائيل لم تتعلم أو ظنتها مصادفة ... فقد كان من الواضح أن الحصار على غزة لا يؤثر على المقاومة بالقدر الذي يمنعها من تطوير قدراتها فصواريخها التي كانت "لعب أطفال" أصبحت قادرة على إغلاق المطار وإبقاء السكان في الملاجئ.... وتجويع شعبها جعله أصلب ... وفصله وإبعاده بمشاكله وهمومه عن مشكلة الأقصى جعله للأقصى أقرب ... لا أنسى كلمات الدكتور باسم نعيم وزير الصحة الفلسطيني في الحكومة المنتخبة 2007 في مكتبه في غزة عندما كنت مع وفد اتحاد الأطباء النفسانيين العرب (1-5 فبراير 2009)... حين أشار إلى أن منع الاحتلال لمادة النشادر من العبور إلى غزة لأنها تستخدم في صنع الصواريخ جعلهم يستخرجون النشادر من البول !! (وطبعا لا إسرائيل ولا غيرها يستطيع مصادرة البول الفلسطيني)... الحصار باختصار جعلهم أقوى وأصلب وأقدر على كتابة التاريخ هذا ما فعله الناس في غزة وفي الضفة وفي كل فلسطين.
إذن فبعد أن ساد الخنوع والخضوع أرجاء الحكومات العربية وتلا دونالد ترامب في أيامه الأخيرة بنود صفقة القرن فصفق له الأذناب من بينهم وصمت المحرجون ولم يرفض رفضا واضحا إلا حكومة فلسطين وحكومة الأردن ... ثم توالت إعلانات التطبيع من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب ... وحتى أذناب الإمارات في المجلس الانتقالي جنوب اليمن أعلنوا استعدادهم وتشوقهم للتطبيع ... وبعد أن صار الانكسار خيارا وحيدا لكل من لم ينكسر بعد ... بعد أن فر العرب جميعا من حلبات الصراع ... وقفت غزة الأبية لتدعم الضفة ووقف أهلنا في الداخل الفلسطيني في انتفاضة ثالثة بدأت ولا أحد يدري متى ستتوقف وراحت إسرئيل تقذف كل ما لديها على غزة المحاصرة فلا تنال شيئا من ثباتها وعزتها ... ما يحدث الآن هو تغيير للمداد الذي يكتب به التاريخ وهناك سطور تماما ستمحى هي التي خطتها إدارة ترامب ثم ستبرز معادلة جديدة تماما ... فالفلسطيني المقاوم موجود قوي وقادر على دعم نفسه بنفسه وكل العالم يراه ولا يملك إلا احترامه والإقرار بعدالة قضيته... في نفس الوقت إسرائيل التي أعلنت منذ أيام سيف القدس الأولى أنها ستقدم على الاجتياح البري واضح أنها تراجعت وواضح أنها لم تعد تملك أي أوراق جديدة قادرة على التأثير في صمود غزة ومفضوح أنها أخفقت كل الإخفاق في تحقيق أهدافها.... وبدأ الحديث عن أن إسرائيل قد تعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد !! وقد اتخذت من الضغط الدولي ستارا تحاول فيه إخفاء هزيمتها ... والمتبصر بالأمر يعرف جيدا أن استمرار هذه المعركة ليس في مصلحة إسرائيل بأي حال من الأحوال وربما لا يمثل عبئا كبيرا على المقاومة... إذن كما قلنا ونردد دائما .... المجد للمقاومة.... ولعل الأيام القادمة ستبين حقيقة الهزيمة الإسرائيلية التي محت وإلى غير رجعة كلا من مشروع صفقة القرن وأكذوبة إسرائيل الكبرى.
واقرأ أيضًا:
التقرير العربي النفسي الأول عن غزة / نعم غزة: رائحة وطعم مختلف