نعم، فنحن كثيراً ما نقر للأسف سلبياتنا بالجملة وننكرها بالتقسيط؛ بخلاف الإيجابيات، حيث نميل إلى إقراراها بالتفصيل وتأكيدها بالتقسيط. بذرة النزعة الكمالية هي التي تزرع فينا الميل للإقرار بالسلبيات بالجملة وإنكارها بالتقسيط. ما هي هذه البذرة الكمالية؟ وماذا يعني أننا نقر سلبياتنا بالجملة وننكرها بالتقسيط، ولماذا نقوم بذلك، وما أثارها، وهل ثمة مثال عملي يوضح هذه الفكرة؟
السلبيات شيء تنفر منه النفسُ الإنسانية، لأنها مجبولة على الانشداد نحو صورة مثالية، حيث تنشد النفس في العادة بلوغ الكمال والتربع على قمته سواء أكان ذلك جانباً أخلاقياً أم خَلقياً، حتى لو لم يكن ذلك النشدان بقالب واعٍ مباشر، فنحن مجبولون على التلبس أو الاقتراب من الكمال، وهو أمر مغروس فينا، ولهذا جاء النص القرآني الكريم، محذراً إيانا بصورة حاسمة من إصدار صكوك تزكوية للذات: “فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ” (النجم: 32).
الإدعاء بالكمال قد يكلفنا مصداقيتنا، إذ قد نتكلف الكمالَ ونتظاهر به، وحين ندرك فجاجة ذلك الإدعاء وعدم قبوله من طرف الآخر، فإننا نغير استراتيجية التعامل مع هذه النزعة الكمالية، حيث نتكلف شيئاً آخر، وهو الإقرار ببعض السلبيات، وفي الغالب يكون الاعتراف بها عاماً، على أننا ننكرها لاحقاً في المواقف الحياتية التي تتجسد فيها هذه السلبيات، وكأننا في نهاية المطاف لم نُقر بشيء، فما نعترف به بالجملة ننكره بالتقسيط!
هنا يتخلق لدينا اتجاه Attitude نحو الكمالية، والاتجاه كما نعلم يتكون من ثلاثة مكونات، وهي:
المكون المعرفي: يتجسد هذا المكون في الاعتقادات حول الموضوع. ويتمثل هنا بالاعتقاد “الخفي” في فكرة الكمال الإنساني.
المكون العاطفي: هذا المكون يعكس المشاعر، حيث تتخلق مشاعر إيجابية حيال الكمال، ومشاعر سلبية حيال النقص أو الشعور بالنقص، وهنا ينبني ما نسميه بالتفضيل للكمال أو عدم التفضيل لنقيضه وهو النقص.
المكون النزوعي: يمثل هذا المكون النزوع نحو السلوك، وفق ما يتناغم مع الاعتقادات والمشاعر التي نحملها، أي أن هذا المكون يُقرَّبنا من “تخوم السلوك”. فإذا تُرجِم الاتجاهُ إلى عمل، انتقل من كونه اتجاهاً إلى كونه سلوكاً.
سنعطي لذلك مثالاً عملياً، لإيضاح الفكرة أكثر، وربما أسست قدراً من البرهنة على ما نقول.
خالد موظف في شركة، ويقول عن نفسه أنه: “ضعيف في إعداد التقارير”. هكذا بالجملة. وربما قالها في محفل من رؤسائه وزملائه أيضاً، وفي قالب قد لا يخلو من الصراحة وربما الانتشاء بأنه “ينتقد ذاته” في الهواء الطلق. وفي خضم العمل وفي مناسبات متفرقة، يتلقى خالد الملاحظات الآتية:
ملاحظة مديره: خالد .. لديك ضعف واضح في هيكلة الأفكار التي تحاول أن تكتب عنها.
ملاحظة زميله حسن: خالد.. يبدو أن لديك صعوبة بالغة في التعبير بطلاقة عن أفكارك.
ملاحظة زميلته سعاد: وجدتُ أنك تنقل معلومات دون أن تعزو للمراجع، وهذا غير مقبول منهجياً.
ملاحظة زميله فهد: هنالك غموض في تسلسل الأفكار لديك يا خالد.
ملاحظة مسؤول في مجلس الإدارة: لم أتعرف على هدف هذا التقرير ؟ ماذا يريد أن يقول خالد بالله عليكم؟
من المؤكد أنه يمكنك تخيل ملاحظات أخرى من هذا القبيل. المهم، أن صاحبنا خالد في كل مناسبة يقوم أو يميل إلى نفي هذه السلبية أو تلك أو نفي أكثرها. وهنا تتضح معالم فكرتنا: الإقرار بالسلبيات بالجملة وإنكارها بالتقسيط. الذي حمل خالد إلى فعل ذلك (الجانب السلوكي من الاتجاه) إنما هي تلك البذرة الخفية، المتمثلة في النزعة الكمالية بأبعادها المعرفية والعاطفية (المكونان الأول والثاني من الاتجاه)، وهذا ما يجعلنا مُطالبين بالانتباه إلى هذا الفخ الخطير.
بعد التأمل في اتجاهات الناس وسلوكياتهم حيال السلوك الكمالي، يمكن تقسيمهم إلى أربعة أنواع:
1- الإنسان الكمالي المطلق. هذا الإنسان لا يقر بسلبياته ولو نظرياً أو حتى ظاهرياً، حيث يتلبس بحالة كمالية أو تزكوية مطلقة في عموم حالاته، مجسداً حالة من الإنسان الملائكي أو النوراني. في الغالب، يجد هذا الإنسان صعوبات جمة في التعايش مع الآخرين، وربما يصنفونه على أنه يمثل: حالة غير سوية، أو قد يصنفونه بأنه: شخصية منفرة، أو معقدة أو نحو ذلك من الأوصاف السلبية، وقد ينتهي إلى نوع من العزلة والاغتراب، وقد يترجم هو ذلك إلى اتجاهات وربما سلوكيات عدائية تجاه المجتمع، حيث يشعر بأنه “لم يأخذ ما يستحق”. قلة من الناس من يمثل هذا النوع، وهو بحاجة إلى علاج نفسي أو سلوكي أو كليهما.
2- الإنسان الكمالي النسبي. يقر هذا الإنسان بسلبياته أو بأكثرها أو ببعضها سواء في فضاءات عامة أو خاصة، غير أن إقراره يكون بقالب مُعمم، مع تفريغ ذلك من مضمونه في حقيقة الأمر، حيث ما يلبث أن ينكرها بالتقسيط، مما يُعدم أو يقلل من الفائدة العملية المتحققة (=الإنسان نصف الملائكي)، ويترتب على ذلك انعدام أو ضعف التطوير الذاتي، فلا يطيق هذا الإنسان تحقيق قفزات ملموسة لا في تفكيره، ولا في تفاعلاته وسلوكياته، ولا في أدائه. وهذا النوع هو مدار حديثنا في هذا النص، مع الإشارة إلى أن ثمة انتشاراً واسعاً لهذا النوع.
3- الإنسان الكمالي المخفف. يقبل هذا الإنسان بالإقرار بسلبياته بالجملة، مع ميله إلى الإقرار ببعضها في المواقف الحياتية، حيث يتصف بقدر من الشجاعة، مما يُظفره ببعض الفوائد العملية، وقد يكون ذلك سبباً للتطور في بعض الجوانب (=الإنسان ربع الملائكي). ثمة قدر من الانتشار لهذا النوع.
4- الإنسان غير الكمالي. يتسم هذا الإنسان بكونه واعياً تماماً لفخ الكمالية، مما يجعله مشتغلاً على نفسه بالتهذيب ليصل إلى حالة سوية يجسد بها ما يمكننا وصفه بـ الإنسان الطيني، مبتعداً عن الجانب المثالي أو التزكوي أو الملائكي، حيث يقر بصدق سلبياته بالجملة أو بالتفصيل ولا ينكرها، وقد يكون هذا الإقرار داخلياً أي بينه وبين ذاته، وقد يكون جماعياً، على أن المهم هو كونه في جوهره “إقراراً جوانياً صادقاً”. هذه الحالة السوية المنشودة التي يمثلها قلة من الناس تحتاج إلى مكونين متكاملين، وهما:
أ- الوعي: أن يعي بعمق أنه كائن غير كامل من حيث الأصل، ولا يمكن له أن يكون كاملاً لا في عقله، ولا في روحه، ولا في مشاعره، ولا في سلوكه، ولا يُنتظر منه ذلك أصلاً، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية الإنسانية، فضلاً عن العملية أو المهنية.
ب- التهذيب: إذ لا يكفي الوعي في هذه السياقات المعقدة، فالنفس تحتاج إلى مِران طويل، من أجل أن تكون قادرة على التخلي طواعية عن النزعة الكمالية، وهنا يصل الإنسان إلى وضع جيد، حيث يقر سلبياته بالجملة ولا ينكرها بالتقسيط، وقد يصل إلى حالة أسمى من ذلك، حيث يقر سلبياته بالتفصيل ويعالجها بالتقسيط، مما يجعله متوفراً على فرص ذهبية لتحقيق قفزات هائلة من التطور في جوانب عديدة، وذلك وفق مصداقيته وإمكانياته وقدراته وجهده في تلك الجوانب.
هذا توصيف عام لهذه الفكرة بقالب أولي، وهي بحاجة إلى دراسات نوعية تنقيبية معمقة، تستشكف آفاقها وتحدد أبعادها ونسب شيوعها وتنضج مفاهيمها، وقد تخلص إلى بناء نموذج تفسيري جيد لها. لعله من المناسب أن نختم هذا النص بهذا السؤال: تُرى، في أي نوع يمكننا تصنيف أنفسنا فيه؟ وكيف يسعنا الترقي إلى “الإنسان الطيني” الذي يأخذ بنفسه؛ توعية ونقداً وتهذيباً وترقياً؟
واقرأ أيضًا:
الإسلامُ بوصفه مُحرِّكاً للعلم ومُثوِّراً له! / يا أطباء العالم تفحَّصوا أنفسَكم!