مما لا شك فيه أن حركة طالبان الأفغانية قد غدت حركةً قويةً، وقد تعلمت الكثير من ماضيها واستفادت من تجاربها، وطورت قدراتها وغيرت من صورتها، وعَدَّدت أشكال مقاومتها، وآمنت بالسياسة ومارستها، وأوفدت سفراءها وابتعثت المتحدثين باسمها، واعتمدت المفاوضات وبرعت فيها، لكنها واصلت مقاومتها وحافظت على بندقيتها، ولم تتخل عنها وقت المفاوضات، ولم تستنكر ماضيها وتلعن شهداءها، ولم تعطل ميثاقها وتبطل أحكامها، بل فرضت وجودها وأثبتت نفسها، وأجبرت الإدارة الأمريكية على الاعتراف بها والتفاوض معها، وعما قريب ستعترف بشرعية حكومتها، وستلحق بها دول أوروبا وغيرها، التي ستذعن لها وستعترف بها، وقد تدعمها وتتعاون معها.
لكن حركة طالبان التي استولت على العديد من الولايات الأفغانية، وانهارت أمامها بسرعةٍ كقطع الدومينو، وأعلنت من القصر الجمهوري الذي دخله مقاتلوها، سيطرتها التامة على العاصمة، واستلامها لعنوان السيادة ورمزها، ومصدر السلطة الأول في البلاد وقصرها، بعد رحيل رئيسها أشرف غني منه أو هروبه خارج البلاد، الذي أراد منه أن يكون دخولهم إلى القصر أبيضاً بلا دماء، وسلمياً بدون قتالٍ، فأوصى حارسه الخاص الاتصال بقيادة الحركة، وتسليمهم مفاتيح القصر الرئاسي، وتمكينهم من كل ملفات القصر وأسراره، وتلاوة رسالته إليهم التي جاءت على هيئة وصايا وأمنياتٍ، بألا يثخنوا في القتل، وألا يظلموا شعبهم ويمزقوا بلادهم.
لم يكن انتصار حركة طالبان ليتحقق، وما كانت لتدخل كابل وتستولي عليها بعد سنواتٍ من القتال الضاري، بقوتها العسكرية فقط، أو بعتادها العسكري الذي هو أقل عدداً ونوعاً وتطوراً من عتاد الحكومة، ولا بالتفاف الشعب حولها أو تأييده لها، ولم يكن كذلك نتيجةً لانهيار الجيش الأفغاني وتفكك بنيته العسكرية وضعف قيادته السياسية، فحركة طالبان على مدى عشرين عاماً وهي تحمل السلاح وتقاتل، وتنتقل من الجبال إلى الكهوف، وتضرب قوات الحكومة وتكبدها الخسائر، لم تستطع الانتصار عليها، ولم تتمكن من إسقاطها والحلول مكانها، رغم أنها الأقوى والأكثر انتشاراً، والأشد عناداً والأكثر إصراراً.
ما كان لحركة طالبان أن تسقط الحكومة الأفغانية، وتتربع في القصر الجمهوري منتشيةً بالنصر وفخورةً بالظفر، لولا تخلي الولايات المتحدة الأمريكية، الحامية للحكومة الأفغانية والداعمة لها، والمشرفة عليها والمؤيدة لها، عن الرئيس أشرف غني وحكومته، وتوقفها عن دعمه وإسناده، وإعلانها تفكيك قواعدها في أفغانستان وانسحابها منها، وسحب سلاحها الثقيل وعتادها النوعي من البلاد، وإعلانها الصريح أنه لا علاقة لها بالنزاع في أفغانستان، وأنها ليست مع طرفٍ ضد آخر، وأن على الأفغان أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، وأن يدافعوا عن بلادهم بأنفسهم، فهي ليست مستعدةً لخسارة المزيد من جنودها بعيداً عن أرضها ودفاعاً عن غيرها.
لنا أن نتصور ما الذي يمكن أن يحل بالكيان الصهيوني لو أن الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية أعلنت تخليها عنه، وتوقفها عن دعمه وإسناده، وعدم مسؤوليتها عن أمنه وسلامته، ووجوده واستقراره، وتفوقه وتطوره، وأنها غير معنية بالدفاع عنه وضمان استمراره، ولا تتعهد بتزويده بأسلحةٍ حديثةٍ وطائراتٍ حربيةٍ متطورةٍ، وقامت بإغلاق قواعدها العسكرية وتفكيك منصاتها الصاروخية، وتوقفت عن تشغيل منظومة باتريوت المضادة للصواريخ، وأعلنت انسحاب ضباطها وخبرائها العسكريين، وعدم مشاركتها في مناوراتٍ عسكرية أو تدريباتٍ مشتركة، وتوقفت عن تزويد الكيان بالمعلومات الأمنية، وفصلتها عن الأقمار الاصطناعية، ومنعتها من الاستفادة من خدماتها المتنوعة.
لكن حتى نستطيع أن نصل إلى ما وصلت إليه حركة طالبان، وأن نحقق ما حققته، ونستعيد وطننا، ونحرر أرضنا، ونجبر العالم كله على الاعتراف بنا والإصغاء لنا والحديث معنا، يجب أن نكون مثلها ثباتاً على الموقف، وإصراراً على الحق، وتمسكاً بالبندقية، ومواصلةً للقتال، وألا نتنازل عن ثوابتنا أو نتخلى عن قيمنا، أو نفرط في أي جزءٍ من أرضنا، وأن نثبت للعدو وحليفه، وللصديق وشريكه، أننا صُبُرٌ في الحرب وصُدُقٌ عند اللقاء، وأننا نستحق الدعم والنصرة، ونستأهل التأييد والإسناد، فقد استطاعت طالبان بجلابيبها القصيرة، وأسمالها البسيطة، ولحاها الطويلة، ووجوهها المغبرة، وأشكالها الغريبة، أن تفرض على العالم كله احترامها والنزول عند رأيها والإصغاء لشروطها، فكيف بشعبٍ مقاومته عنيدة وتضحياته كثيرة وقدرته كبيرة.
أحسنت طالبان مخاطبة القوميات الأفغانية كلها، واتفقت معهم واستوعبتهم، وأمنتهم وطمأنتهم، وشاركتهم وأشركتهم، وأعطتهم ووعدتهم، وأفرجت عن معتقليهم وقدمت كبراءهم، وجعلت على رأس المقاتلين قادتهم، فغدوا جنوداً معها يؤمنون بمشروعها ويؤيدون سياستها، ويقاتلون تحت رايتها ويضحون في صفوفها، وسهلوا لها السيطرة على الولايات، ووضعوا تحت تصرفها كل الإمكانيات لمواصلة الزحف وزيادة الحشد حتى كابل، الأمر الذي عَبَّدَ الطريق أمامهم، وسَهَّلَ مهمتهم، حتى كان دخولهم إلى كابل مأموناً ميسوراً، بينما كان الأمريكيون يرحلون، ويسحبون من الجيش الأفغاني سلاحهم الثقيل ومعداتهم المتطورة، وطائراتهم تحمل تجهيزاتهم وتجلي من كل أفغانستان رعاياهم، ولا تلتفت إلى من تعلق بركابهم يريد أن يرحل معهم، أو توسل إليهم يريد بقاءهم ويرجو استمرار دعمهم ومواصلة تأييدهم.
لا أعتقد أن هذا الكيان المصنوع غربياً والمغروس في أرضنا استعمارياً، والباقي في بلادنا وظيفياً، والموصوف عنصرياً والمعروف استيطانياً، والمصنف إرهابياً، يستطيع الصمود والبقاء والتحدي والمواجهة، في حال تخلت عنه الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، وشعر أنه وحيدٌ في المواجهة، ومعزولٌ في المنطقة، دون حليفٍ ينصره، أو صديقٍ يدعمه، أو قوةٍ ترفده، أو نظمٍ تحميه، حينها سيتفكك من داخله وينهار، ويهرب مستوطنوه ويرحلوا، إذ لن يصمد في المواجهة، ولن يتمكن من صد المقاومة، أو تهديد أصحاب الأرض وأهلها الشرعيين وسكانها التاريخيين، فنحن أقوى من طالبان وأثبت، وأشرس في القتال وأصدق.
بيروت في 16/8/2021
واقرأ أيضا:
منهجُ العنفِ الإسرائيلي بينَ نتنياهو وبينت / لبنانُ الدُرَّةُ غارقٌ في الظلمةِ هالكٌ في الأزمةِ