قال: هل تريد الجلوس على كرسي مكسور؟
قلت: وكيف يتحقق مثل هذا الجلوس؟
قال: الكرسي إن لم تكسره يكسرك!!
قلت: ما هذا الذي تقوله؟ الدنيا كلها كراسي!!
قال: سأحدثك عن داء الكرسي
قلت: وهل هناك داء بهذا الاسم؟
قال: هذا الداء يوصف بأن الشخص يجعل من الكرسي وسيلته الوحيدة للتفاعل مع الحياة، فيتقوقع فيه ويذوب ولا يعرف شيئا سواه، فيتحول الكرسي عنده إلى داء وخيم لا يمكنه الخلاص منه إلا بالبتر.
قلت: ماذا تقصد؟
قال: يصبح الكرسي ورما سرطانيا وعليك أن تجري عملية جراحية كبيرة لتقطعه من الشخص، وتؤدي هذه العملية في أكثر الأحيان إلى موته أو إصابته بعاهة، فالمصاب بداء الكرسي لا يفهم شيئا أبعد من قوائمه، فالدنيا عنده تفاعل بينها والكرسي، وموقفه إزاء الأشياء تحدده علاقتها بالكرسي الذي يجلس عليه.
قلت: وهل لهذا الداء أعراض أخرى؟
قال: المصاب به يحسب نفسه واحد أوحد لا مثيل له بين الناس وعنده ينتهي الرأي، ولا يجوز أن تقول له أن هناك مَن يوازيه بالكفاءة والقدرة، فهو العارف بكل شيء وعليك أن تطيعه ولا تبدي أي رأي يعارض ما يراه، ففي ذلك تهديد لقوائم الكرسي, وتطاول على مقامه الرفيع "أجله الله"، وعليك أن تحذر وأنت تنظر إليه خشية أن يتوهم بأنك تزدريه فيقتص منك وينفث غضبه فيك.
قلت: وما هي علامات هذا الداء؟
قال: هذا الشخص يمشي وكأنه يطير في الهواء، ويرنو إلى الناس من علاء "فيراهم صغارا ويرونه أصغر", ويحسب الآخرين خلقوا من أجله، فهو السيد وهم العبيد، يأمر ولا يطلب، وهو فوق كل شيء ما دام يتنعم بالكرسي العتيد، ويؤمن بالمبدأ الاستبدادي "نفذ ولا تناقش". إن نظرت إليه تكرهه، وتتجنب الاقتراب إليه، وتدعو الله أن لا تكون في حاجة إليه، لأنه سيذلك ليعطيك ويهينك ليرضيك ، شخص أعمى "تكرسن" في صندوق نفسه وأمَّرته نفسه بأسوأ ما ترغب وتريد، فانطلقت شهواته وتنامت رغباته وحسب الكرسي ربا يحميه، ونسي ماذا سيفعل إذا دارت الدوائر وتقيأه الكرسي، ولفظه في سلة المهملات التي بجانبه.
قلت: وكيف تشخصه؟
قال: لدي اختبار واحد لا غير.
قلت: وما هو؟
قال: أن تدخل غرفة هذا المريض وتجلس على كرسيه.
قلت: وهل أدفعه من كرسيه وأجلس عليه؟
قال: لا ولكن, اغتنم فرصة يكون فيها قد غادر الكرسي لحاجة ما، فاجلس أنت مكانه!!
قلت:لا.. لن أفعل هذا.
قال: لن تفعل، لأنه إن شاهدك تجلس على كرسيه فسيتحول إلى ثور هائج، قد يتسبب لك بأضرار تتفق وقوة الكرسي الذي يجلس عليه، وسينفذ كل الصلاحيات الممكنة وغير الممكنة للانتقام منك حتى لو كنت أقرب الناس إليه.
قلت: وما هو سبيل الوقاية من الداء؟
قال: أن يجلس كل منا أمام مكتبه، أن لا نجلس وأمامنا مكتب فخم، لنجعل المكاتب خلف ظهورنا عندما نحدث الآخرين والكراسي في غرفنا من نوع واحد، فلا كرسي أحسن من كرسي.
قلت: هذا كلام بعيد، فأنا أريد كرسيا دوارا، ولا يعقل أن أجعل في غرفتي كراسي دوارة.
قال: اجلس على كرسي دوار أمام مكتبك، ولا تضع كرسيا آخر في غرفتك، بل مقاعد كبيرة، يمكنك أن تشارك مَن عندك الجلوس عليها أحيانا.
قلت: وهل هذا سيقي من داء الكرسي؟
قال: جلوسك أمام المكتب وحديثك إلى الآخرين من غير حواجز بينكم، يمنحك شعورا بأنك إنسان وتنتمي إلى البشر الذي تريد أن تساهم في تقديم خدمة ما له. وجلوسك خلف المكتب يصنع حاجزا نفسيا بينك وبين الناس ويوهمك بأنك شيئ آخر, ويجعلك تتصور ما ليس فيك.
قلت: سأفعل ذلك اليوم.
ذهبت إلى مكتبي, ودفعته إلى جوار الحائط وجلست على الكرسي أمامه، فوجدتني أمتلك شعورا آخر لم أكن أعرفه، وأتحرك بحريه أكبر وأنجز عملي بسرعة غريبة. وعندما أتحدث مع الموظفين والمراجعين، أشعر براحة نفسية وبروح من الانتماء والرغبة في تحقيق ما يريدونه وفقا للقانون، ووجدتني أبتكر صياغات مفيدة من أجل الآخرين, لأن شعورا بأني منهم ومن أجلهم قد اجتاحني، بينما كنت أجلس خلف المكتب وكأني طاووس، وأتوهم معرفتي بأشياء كثيرة، لكني عندما جلست أمام المكتب أدركت بأني لا أعرف وعلي أن أثابر لكي أطور نفسي وأتعلم.
فعدت إلى صاحبي بعد أيام وقلت له: ما هذه الوصفة السحرية؟
قال: وما الذي حصل؟
قلت: فعلت ما اتفقنا عليه!!
قال وكأنه نسي ما قاله لي: ماذا تقصد؟
قلت: جلست أمام المكتب!!
قال: أ لم أقل لك إنه داء، هل تصدقني الآن؟
قلت: نعم أصدقك!!
قال: وقانا الله من شر الكرسي الرجيم
قلت: إنه سميع مجيب.
قال: إن الكرسي شر وعلينا أن نحطم قوائمه، كل مصائبنا بسبب الكرسي العتيد.
قلت: فهل أدركناها؟!
ونأمل أن نحذر هذا الشر المستطير.
قال: وفقنا الله
وأمسك بكرسي كان يجلس عليه وراح يضربه في الأرض حتى تكسرت قوائمه. فجلس عليه ثانية وهو يردد "هذه هي السعادة وهذا هو العيد" وأنا أرقبه وأمضي في طريق بعيد.
اقرأ أيضاً:
أموال مهدورة وعقول مكدورة!! / أيهما أهم الجريمة أم الدافع؟!!