الشعر بين القراءة والحفظ يشق طريقه ويعرف مقامه، ومعظم الشعر المعاصر للقراءة ولا يُقرأ، ولا تجد فيه ما يُحفظ إلا فيما ندر، أي تحول إلى صور مكتوبة تستدعي من المهتمين بها التمعن والتفكر والتأمل والتفاعل الإجباري، للوصول إلى فك رموز ما في قلب الكلمات والعبارات من رؤى وتصورات.
فهل أن الشعر للقراءة أم للحفظ؟
العرب لم تكتب الشعر وكانت تتداوله محفوظا، ويُقال عندما بدأت القصائد الطوال تنتشر مالوا إلى تدوينها لكي تتوارثها الأجيال، وقد دونت الحضارات القديمة الملاحم والأناشيد وأودعتها كالأمانات عند الأجيال، التي تحفطها وتصونها كذخيرة ثقافية وفكرية تعين على صناعة الحياة الأفضل.
ومع الاحترام والتقدير والتثمين للإبداعات التي نسميها شعرية بأنواعها وأشكالها، فأنها ليست للحفظ والتغني بها والتعلم منها والاستنارة بمنطلقاتها وأفكارها.
فما يحفظه الناس من الشعر هو المتوارث القديم، الذي جرى بينهم مجرى الأمثال، والحِكم والعلامات الدالة على صدق المسير في الحياة.
ولو سألت عينة عشوائية من الناس في الشارع عمّا يحفظونه من الشعر، فلن تجد بينهم من يترنم بشعر معاصر، أو يحفظ قصيدة من الشعر الحديث، ربما بعض كلمات أو أسطر وعبارات، لا أكثر، لكنهم يحفظون العديد من أبيات الشعر القديم.
وهذه ظاهرة علينا أن نتوقف إزاءها ونتفكر قليلا، فالموضوع ليس بالحداثة أو قبلها وما بعدها، إنها تتصل بالشعر ودوره في حياة الناس في أمة تطور سلوكها القيمي والأخلاقي بالشعر، ولولا دور الشعر التربوي لما كان للنبي شاعر هو حسان بن ثابت.
وبقي للشعر دوره ومكانته في تنمية القيم والأخلاق وترسيخ المبادئ في حياة الأجيال، حتى داهمته عواصف الحداثة وهبّت عليه رياحها الصرصر، فأسقطت أيائك الوجود الشعري العربي، واقتلعته من تأثيره في صناعة الناس وتربيتهم، وتوجيههم الوجهة الحضارية اللائقة بهم.
إن فقدان الدور التربوي للشعر في حياة الأمة، من الأسباب المساهمة في توليد كوارثها وتداعياتها، وتمزق وجودها وانهيار منظومتها القيمية والأخلاقية.
قد يرى مّن يرى ما يرى، لكنها ظاهرة تستدعي النظر والاهتمام، لكي تستعيد الأمة طاقتها على التحدي والرقاء.
فنسبة حفظ الشعر في الأجيال تتناسب طرديا مع قدرات صيرورتها وتكوّنها الخلاق!!
فهل من شعر محفوظ؟!!
واقرأ أيضاً:
أكلت يوم أكل الثور الأبيض / الانحطاطية!!