الاستماع لشعراء النصف الثاني من القرن العشرين، والربع الأول من القرن الحادي والعشرين، يكشف أن الانغماس بالسلبية والهروبية ظاهرتان سائدتان، ومن النادر أن تجد شعرا يتحرر منهما.
السلبية تتمثل بالندب وجلد الذات، والعجيب في الأمر أن الجمهور يتفاعل مع قصائد يمكن تسميتها باللطميات، لأنها عبارة عن بكائيات ورثائيات بأسلوب آخر، وجوهرها لا يختلف عمّا توارد في الشعر العربي من قصائد الرثاء.
الشعراء يتكلمون عن وجع الأمة وسلبياتها، ولا تجد فيما ينشدونه غير العويل، وتتساءل عن شاعر تحدي وطبيب وجيع، ولماذا لا يقدمون رؤى ذات قيمة شفائية، بدلا من الكلام المعزز لكوارث الأمة.
وفي هذا التوجه يشتركون مع معظم المفكرين، الذين نظّروا وما تمكنوا من تقديم حل عملي ناجع لأبسط مشكلة، بل بتناولهم لها يعقدونها ويزيدونها إزمانا وتعضلا، وعلى نهجهم يسير الشعراء.
فهل وجدتم مثل هذا الشعر في ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية؟
أما الهروبية فتتجسد بالعدوان على الوضوح، والوسواس المَرضي بالرمزية والغموض والإبهام، وخصوصا فيما يسمى بشعر الحداثة، وبالكتابة عن الحب والغرام، الذي استهلكه الشعراء العرب على مر العصور، فصارت قصائدهم على إيقاع "أحبها وتحبني ويحب بعيرها بعيري".
الشعراء لهم دور حضاري ومعرفي واجتماعي، وعليهم أن يكتبوا قصائد تنويرية ذات قيمة مستقبلية، وباعثة للأمل والقدرة على صناعة الحياة الأفضل.
وعندما يكتبون بمداد السلبية يساهمون بتثمير أوجاع الأمة، وتعطيل عقول أبنائها وتضليلها، وعليهم أن يتحملوا المسؤولية، لا أن تكون قصائدهم أنينيه دمعاوية، تدعو للعويل والنحيب الشديد على تهيؤات وتصورات على الشاعر أن يقتلعها ويأتي بما يناقضها، لتستقيم المسيرة ويتحقق الهدف الأسمى للإنسان.
فما كتبه شعراء الأمة في عصورها البعيدة أكثر قوة وقدرة على استنهاض الهمم، وتقديم الرؤى والتصورات الصالحة للبناء الحضاري الأصيل.
أما الشعراء المعاصرون فشغلهم الشاغل الندب والبكائيات التي يسمونها شعرا، وهذه ظاهرة غير موجودة في مجتمعات الدنيا، ولو قرأ شاعر فيها قصيدة نواحية لهبّ المستمعون بوجهه ووبخوه، وفي مجتمعاتنا يصفقون له ويهللون، ويحسبون ما قدمه ذروة الإبداع وقمة الشعر!!
سيغضب الكثيرون من المقال لأنهم يجيدون البكاء والعويل، وعلى المجتمع أن يستلطف الأحزان والمرارات، وعلى الشعراء تعزيز المشاعر السلبية عند الناس، ليحقق الطامعون ما يحلمون به دون عناء. ودامت الكتابة بدموعنا الغنّاء!!
واقرأ أيضاً:
أعذب الشعر أحفظه!! / رصيد المفردات اللغوية!!