الوثنية استعداد نفسي متوارث، وقائمة في الأجناس البشرية منذ الأزل، ومن الصعب الانتصار عليها والتحرر من أسرها.
وهذا يفسر أن الدعوة التي بدأت في مكة، استمرت ثلاثة عشر سنة دون جدوى كبيرة، حتى استطاعت القوة أن تلغيها كسلوك ظاهر، لكنها لم تنهها كحالة متوطنة في النفوس.
فلا يعني تحطيم الأصنام اقتلاعها من الأعماق، فالوثنية تواصلت وتجسدت بآليات متنوعة.
وفي واقع الأمة تحولت الكراسي إلى أوثان، فالجالس عليها يكون معبودا بشتى الأساليب، ويتحقق دفعه إلى التفرد بالقوة والسيادة والسلطة، وتأمين الطاعة المطلقة له، بل وتجاوز ذلك حدود الواقع البشري، وصار الجالس على الكرسي مقدسا ويحكم بأمر الله، وتخنع له الرقاب وأمره مطاع مستجاب.
وهذا السلوك ليس جديدا، بل عهدته البشرية منذ بدايات التكونات الاجتماعية، وفي حضارات وادي الرافدين والنيل، والأمثلة الكثيرة على أن الحاكم إله، أو ابن إله، أو ما يماثلها، وتطورت الفكرة وتجسدت في الديانات المتعددة وخصوصا الإبراهيمية، التي هي ثورة على التوهم بتأليه البشر، فحررت الإله من قبضة مخلوقاته.
لكن الأمر لم يتوقف، وفي عصرنا الحالي هناك العديد من المجتمعات الوثنية، التي تتخذ من الأشياء الحية والجامدة أوثانا تعبدها، وتذعن لإرادتها المتصورة.
وفي مجتمعاتنا تحققت الوثنية الجارفة في الذين يدّعون المعرفة بالدين ويمثلونه، فصارت معظم الرموز أوثانا يتعبد في ظلالها الناس الذين يحسبون أنفسهم يجهلون معنى الدين، وتجدهم بها يتبركون ويقلدون ويتبعون خنعا ركعا، تعطلت عقولهم وألهبت نفوسهم بالتصورات والأمنيات الغيبية، المسلحة بالترغيب والترهيب الرهيب!!
وتلك حكاية الوثنية الفتاكة الفاعلة في مجتمعاتنا بعد أن صار الدين عنوانها.
فالوثنية التي حاربها الدين، إلتفت عليه وحققت إنتصارها ودامت فاعلة في الأجيال!!
واقرأ أيضاً:
الغضب المكنون!! / ما في الطين فينا!!