جعفر بن أبي طالب، العربي الذي تشرّب الإيمان في خلايا جسمه، وتحقق الوعي الديني النقي في قلبه وروحه وعقله، وبفعل قوة الإيمان وصدق الانتماء إلى الدين، استطاع أن يقف أمام ملك الحبشة، ويقدم له الإسلام بكلمات دقيقة واضحة دالة، فيها من عمق الفكر والدراية، ما لا يتحقق عند الكثيرين من أدعياء الدين والناطقين باسمه اليوم. لقد وقف في عام 629 ميلادية، أمام النجاشي ملك الحبشة وهو يقول:
"أيها الملك... كنا قوما أهل جاهلية:
-نعبد الأصنام
-ونأكل الميتة
-ونأتي الفواحش
-ونقطع الأرحام
-ونسيء للجوار
-ويأكل القوي فينا الضعيف
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان.
وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله تعالى. فعبدنا الله تعالى لا نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم الله علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله. وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك".
تُرى مَن علّم الصحابي الجليل، الكلام الجميل الجزيل؟!!
ومَن الذي منحه الشجاعة والبلاغة والقدرة على المحاججة، والوقوف أمام ملك الحبشة، والتكلم بثبات وثقة ومقدرة وإصرار؟!
مَن الذي علمه البلاغة وهو أعرابي؟!
إنها مدرسة الأنوار المحمدية، والقرآن البهية، ونفحات جبريل الإلهية، التي أترعته بطاقة الإيمان والوعي، والإدراك لجواهر العقيدة الإسلامية، وقيمتها ودورها في حياة البشرية.
لقد تمثلها جعفر بن أبي طالب، فقال كلمات اخترقت جدران الزمن، وثبتت مثل الشمس في جبين الحياة.
وها أنا أشارككم بها بعد أن مضى عليها 1394عاما، وستبقى ما بقيت الحياة، لأنها قد عبّرت عن حقيقة الدين والذين جاء إليهم، وكيف اندفعوا بطاقاتهم الروحية والنفسية والعقلية نحو الاتجاه الجديد.
نعم هذه الكلمات تؤكد انقلابا ثوريا روحيا إدراكيا فكريا، تاما وشاملا وصادقا، معبّرا عنه بالفعل التأريخي، الذي رسّخ في أعماق الأجداد رؤية الحياة على مدى الوجود الأرضي، فكان صوتهم يخاطب المخلوقات الموجودة والقادمة، وكأنهم كانوا يخاطبون طاقات الحياة في الأرض وقلبها، لا بشرا من حولهم، ولا جيلا من بعدهم فحسب.
إن خطابهم وفعلهم كان موجها لكل ما يدب وسيدب على وجه الأرض من بني آدم وحواء إلى قيام الساعة.
وكأنهم كانوا يرونهم يمرون أمامهم أفواجا أفواجا .
يا جدنا الصحابي الكريم بكل ألم وحسرة وقهر وحزن أقول: "لقد عدنا إلى ما هو أجهل وأقسى وأمرّ منها!"
أنت تقول "كنا قوما أهل جاهلية"
فانظر إلينا اليوم ، كيف نخوض غمار القرن الحادي والعشرين، بمنطق تدمير ما شيدتموه أنت والصحابة الأخيار الأطهار، ليكون مشعلا خالدا منيرا للبشرية ، حتى لأصبحت جاهليتنا الأولى حلما وفخرا وعزا!!
وتقول كنا "نعبد الأصنام" فانظر إلينا ماذا نعبد؟
فنحن نعبد ما لا يخطر على بالك وبال الصحابة الذين ساهموا في إرساء دعائم الدين، وحمل راياته إلى الناس كافة وأطلقوا طاقات الروح والعقل اللبيب، أفلا ترانا نتعبد في محراب الكراسي والسلطة والتحزبية والفئوية والتمذهبية، والتبعية والإذعان للطغيان والظلم والضلال والبهتان!!
وتقول "ونأكل الميتة" فما عسانا نأكل اليوم؟
نحن نأكل بعضنا ونفني بعضنا، ونستبيح دماءنا وأعراضنا، وما حرّمه نبينا، ونهدم بيوت الله وأماكن عبادته، ونقتل المسلم بعد أن نسميه بما يسوّغ جزره، ونأتي بالخطايا والآثام والموبقات والخسران، فالذابح فينا يكبّر والمذبوح يتشهد، وتلك مصيبة الدين بالدين!!
وتقول "ونأتي الفواحش" وأنا أدعوك لتنظر، لأني لا أجرؤ على تعداد ما نأتيه من الفواحش بإسم الدين، ووفقا لمتطلبات هذا الرأي وذاك الاتجاه، فكلٌ منا يكفّر كُلاً مِناّ، وحسبنا أن نبيد بكلنا!!
وتقول "ونقطع الأرحام" فتأمّل ماذا يجري من قطع للأرحام وقتل للمسلم، وهتك للعرض وأكل للحرام باسم الدين، الذي صار بموجبه الحق باطلا والباطل حقا، ورموزه يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وفقا لفتاواهم وتصوراتهم، وما تمليه عليهم أهواؤهم وأمارات السوء الفاعلة فيهم!!
وتقول "نسيئ للجوار" ومن حولنا أدلة قاطعة على إساءتنا لجارنا، لأنه مسلم ونحسبه غير مسلم، وننكر أخوّتنا بالدين والإنسانية، ونتصاغر في المذهبيات والطائفيات، التي هي من طباع جاهليتنا الأولى الرحيمة، ذات القيم والتقاليد والأصول، وجاهليتنا المعاصرة، تضع على رأسها تيجان الوحوش الكواسر، وتتفنن في الافتراس والانتقام والعبث بمصير الإنسان. وترانا يا سيدي جعفر نشن حروبا على بعضنا بأسلحة تأتينا من غيرنا، لتفتك بنا فتكا ما عرفته حرب داحس والغبراء وحرب البسوس، لأننا نريد أن نعود بتفوق ودمار شامل وخراب كامل، إلى ما كنا عليه قبل ديننا لنغير تأريخنا، ونمحق ما يشير إلينا ويدل على مسيرتنا، وتأثيرنا في الحياة الإنسانية!!
وتقول "ويأكل القوي فينا الضعيف"، وما عليك إلا بجولة في بلادنا، لترى بأمّ عينيك كيف يصول الأقوياء، وكيف يئن الضعفاء من الحياة ومن أنياب الأقوياء، وكيف أن الفقر صار من طقوس الدين، وكأن الله أرسل الدين لإفقار الناس وترويعهم، وأسرهم بالفاقة والحرمان، وخزائن الأرض في ديارنا، لكننا لا نهنأ بها، وإنما نحترق، ونحوّلها إلى حميم وسعير، وأبابيل ترجمنا بنيران نشتريها من أعدائنا لتنهينا!!
يا جعفر!! لقد عدنا إلى أفظع منها وأدهى وأمرّ، فهل لك أن تأتينا بقول ينفع؟!
ولا أريد أن أقول أكثر، فقولك جامع مانع.
فلنتأمله بعقولنا وبصائرنا وننظر حالنا.
اللهم أخرجنا من جاهليتنا المعاصرة المريرة، ونوّر قلوبنا بالإيمان بعد أن هديتنا وأرشدتنا، وأرسلت إلينا نبيا من بيننا، يعلمنا آياتك ويفقهنا في دينك، ويدعونا إلى الصراط المستقيم.
وها نحن يا ربنا قد اتخذناها عوجا وسلكناها هرجا مرجا، وإليك نلجأ وننيب فخلصنا من هذه الجاهلية الحمقاء السوداء العاصفة في ربوعنا، والتي ستعيدنا مئات السنين إلى ما قبل هبوط وحيك على سيد المرسلين وخاتم النبيين.
اللهم وحّد كلمتنا تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وأيقظنا من نومنا، وأخرجنا من غفلتنا وضلالتنا وكهوف أميّتنا.
اللهم إليك نتوجه وبك نستعين، ولا منقذ من أوجاع الفواجع الطاحنات إلا بعونك وهدايتك، فاهدنا إلى ما هو خير لنا.
اللهم ارحمنا واغسل قلوبنا بنور وحدانيتك وجلال عظمتك يا رب العالمين.
أنت إلهنا والقرآن كتابنا ومحمد نبينا والكعبة قبلتنا، لكننا من شدة أميتنا وجهلنا قد صرنا أشتاتا، فتفرّقنا وتمذهبنا وتخندقنا ضد بعضنا، ولسان حالنا جميعا يقول "أشهد أن لا إله إلا الله"، وما اعتصمنا بحبل الله المتين، وكأن لكل واحدٍ منا ربّ ودين!!
ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
واقرأ أيضاً:
أنماط تفكير!! / السلطة الدينية والتنوير!!