الإنسان والسلوك والعادات:
يقال بأن أعقد مخلوق في هذا الكون هو دماغ الإنسان والذي يزن عادة كيلو ونصف، ومن جوانب تعقيده الملايين والملايين مع العصبونات أو الخلايا العصبية، مما يمكنه من القيام بالكثير من الأعمال والوظائف والأوامر الكثيرة التي تجري في الدماغ من الأفكار والمشاعر والخيالات والعادات والسلوكيات والكلمات والذكريات...
ومن المواضيع الهامة التي تهتم بها علوم الصحة النفسية المختلفة موضوع تغيير السلوك وتعديله، كعادات ونمط حياة، حيث قد تتأصل عند الإنسان بعض العادات وأنماط الحياة اليومية، والتي تصبح مع الوقت سجنا يكبلُ صاحبَه، ويمنعهُ من ممارسة حياته بشكل طبيعي بعيداً عن هذه العادات والسلوكيات والأنماط.
من المعروف أن الإنسان قد يتحكم به سلوك معين يكررّه حتى يصبح عنده "عادة"، فقد يعتاد مثلا أن يأكل في ساعة معينة، وينام في ساعة محددة، ويشرب القهوة أو غيرها متى شاء، وربما أصبحت عنده بعض السلوكيات السلبية "عادات" يعتقد بأنه لا يستطيع الاستغناء عنها أو حتى تغييرها.
ومن الطبيعي أن الإنسان يرغب أحيانا بتغيير سلوكه للأصلح، إلا أنه قد يعجز أو يضعف عن القيام بهذا التغيير، فلماذا يا ترى؟
ومن أسباب صعوبة تغيير السلوك والعادات أنه قد أصبح لهذه العادات في دماغ الإنسان ارتباط عضوي فيسيولوجي، وليس مجرّد شيء نظري مجرّد. ولهذا نرى أنه ليس من السهل تغيير السلوك، وخاصة الذي تكرر فأصبح عادة، وبالتالي فكل المحاولات المتسرعة لتغيير هذا السلوك والعادات، أو كثير منها، الغالب أن مصيرها الفشل، ولهذا نجد الكثير من الناس يحاولون الإقلاع عن عادة أو عمل معين، إلا أنهم يجدون صعوبة كبيرة في تحقيق هذا أو الاستمرار عليه لمدة طويلة.
وإذا ما أراد الإنسان تغيير عادة أو سلوك ما لكونه سلوكا سلبيا أو ضارا، فمن المفيد أن نعرف أن العقبة الأكبر أمام نجاح هذا الإنسان في تغيير سلوكه هذا إنما هو الإنسان نفسه، وليس الناس من حوله، وليست البيئة الخارجية أو الظروف، فالعوامل الداخلية هي الأساس! وكما يقول الله تعالى "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم" (الرعد 11)
مفهوم الممنوع وتغيير السلوك:
تتنازع الإنسان عادة قوتان متصارعتان، بين الإقدام والإحجام، وبين الفعل أو عدمه. فللحفاظ على سلامته يحتاج الإنسان هاتين القوتين، ففي بعض المواطن يفيده الفعل والإقدام، وأحيانا أخرى يفيده الامتناع والإحجام. وهو أيضا دوما في حاجة إلى "تدريب" هاتين القوتين في داخله لأنه في حاجة لهما معا، وهو في حاجة أيضا لحسن التوازن بينهما.
وقوة الإقدام قوية متأصلة بطبيعتها عند غالبية الناس، بل الإنسان مجبول عليها من الرغبة والتمني والطمع والأخذ والاستعجال.. "خُلقَ الإنسانُ من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون" (الأنبياء 37)، أو قول الرسول الكريم "لو كان لابن آدم واديانِ من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملَأُ جوف ابنِ آدم إِلا الترابُ، ويتوبُ اللَهُ على مَن تَابَ" (مسلم).
ولكن الصعوبة الأكبر والتي تحتاج لتدريب وانتباه هي قوة المنع والإمساك. ولذلك نجد آدم عليه السلام أنه من أجل العيش في الأرض وإعمارها كما أمره الله تعالى فإنه احتاج وزوجته للتدريب العملي على تنمية هذه القدرة عن الامتناع والتوقف وضبط النفس، حيث أباح الله تعالى لهما الأكل من كل أشجار الجنة "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغداً حيثُ شِئتما.." ولكن وضع لهما ما يدربهما على الامتناع وضبط النفس فقال لهما "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" (البقرة 35).
وقد وضع الله تعالى في جهازنا العصبي من خلال مراكز دماغية محددة، ونواقل عصبية معينة، القدرة على منع النفس من الإقدام، وعلى ضبط النفس عن الفعل، وهذا ما يفسر الظاهرة النفسية المعروفة وهي الإقدام أو الإحجام.
والإنسان في حاجة دوما لامتلاك القدرة على الامتناع وعدم الإقدام على عمل ما، بل إن الكثير من مآسي الأفراد والمجتمعات إنما هي في فقدان أو ضعف هذه القوة من ضبط النفس وإمساكها عما لا يريد الإنسان فعله، فقد نجد الجشع والسرقة والاحتيال وإتيان المعاصي والمحرمات. والانسياق وراء المغريات والمثيرات، وكأن الإنسان ليس لديه مِكْبَح يلجم النفس ويمسكها ويمنعها. والله تعالى امتدح الإنسان الذي يملك زمام نفسه، ووعده بالجنة لهذه الخصلة.
ومن هنا نهتم نحن المعالجين وأطباء النفس بهذا الشهر الكريم، لأنه فرصة طبيعية مناسبة يمارس فيها الإنسان المسلم، وكل المجتمع الصائم، هذا التدريب اليومي ولشهر كامل، التدريب على تنمية القدرة على قول "لا" وبالتالي زيادة احتمال النجاح في تغيير العادات وأنماط الحياة التي قد يكون قد اكتسبها خلال العام.
ويتبع>>>: رمضان وتغيير السلوك: تحدّي الإرادة وضبط النفس
واقرأ أيضًا:
ما هي الحاجات العاطفية للرجل والمرأة؟