كثيرة هي المصائب التي يمكن أن تحيق بالرجل؛ يفرمه قطار، يدهسه تروماي، يطرده صاحب العمل، يتضور جوعًا، يضرب في القسم، تخلعه زوجته، لكن هذا كوم وأن يجد نفسه بين امرأتين غاضبتين كوم آخر، وتكون المصيبة مضاعفة لو كانت المرأتان أمه وزوجته، وقتها يتحول لشريحة ساندويتش أو شاطر ومشطور وبينهما رجل.
يا عيني عليك يا عبد الوهاب، لم ينفعك طولك الذي يقارب عمود نور، ولا ضخامتك الشبيهة بجذع شجرة، ولا حتى طيبة قلبك وشاربك المضحك وملامحك الطفولية في تلك المعارك النسائية التي يشيب لها الولدان. أمك أمامك وزوجتك وراءك.. فأين تذهب يا مسكين؟.
بطة الدلوعة
عبد الوهاب هو مجرد كهربائي بسيط، طيب القلب إلى حد لا يصدق، يثور بسرعة ثم يشعر بتأنيب الضمير، باختصار يعاني من إحساس مزمن بالذنب لا يوجد ما يبرره، يحاول استرضاء الكل بالذات زوجته فاطمة، أو بطة كما يدللها، وهي دائمًا في حاجة إلى الاسترضاء رغم تواضع أصلها، ولكنه أفرط في تدليلها حتى اعتادت ذلك، صبوحة الوجه ليِّنة الأعطاف يحسده عليها أصدقاؤه لأنوثتها الغامرة. بطة دومًا غاضبة لسبب أو آخر، غاضبة لأن زوجها تأخر وغاضبة لأن زوجها لا يتأخر، غاضبة من أمه (نظلة)، وغاضبة لأن الغضب يحلو لها ويحلو له أيضًا فاسترضاؤها -وإن كان صعبًا- يمنحه ابتسامتها الحلوة من وجهها الصبوح.
وهذه الليلة بالذات كان يبالغ في استلطافها فقد راحت تصرخ بوحشية حينما فاجأتها آلام الوضع فحملها -وهي تشتمه وتعضه- إلى المستشفى الخاص الذي كلفه كثيرًا، وقد تبدى على وجهه ملامح القلق والإحساس بالذنب فطالما تمنى ولدًا بعد أن أنجبت له بطة بنتًا جميلة أسمتها على اسم أمها سحر، في الحقيقة هو لا يعبأ كثيرًا بجنس المولود -فكله نعمة من الله-، ولكن المشكلة في أمه التي تلقت خبر ميلاد الأنثى في امتعاض وراحت تنتقد زوجته، وحينما دافع عنها شتمته وطردته. لكنه نسي هذا كله حينما أبلغته الممرضة الباسمة بميلاد أنثى جديدة، حمد الله من قلبه ومضى بهيكله الضخم وشاربه الطفولي -رغم اعتراض الطبيبة وشتائم الممرضات- مثل الإعصار إلى بطة الشاحبة، مهنئًا إياها على السلامة وشاعرًا بالذنب؛ لكونه ضخم الجثة وبرغم ذلك لم يلد بدلاً منها.
ناولته الممرضة الوليدة الصغيرة فحملها في حذر بينما راحت بطة تنظر إلى الجانب الآخر في إعياء وغضب، قال متوددًا: حمدًا على السلامة يا بطة،
وبرغم أنها لم ترد عليه فإنه أقنع نفسه أنها حركت شفتيها بما يعني: الله يسلمك.
سحر التي هي منيرة
قالت عاملة بدينة ترتدي ثيابًا زرقاء بالية إن البنت زي القمر، وبرغم أن ملامحها كالعجين لم تتضح معالمه بعد، فقد وافقها في حماسة. وتساءلت المرأة عن اسم الوليدة فقال بلا تردد: نظله إن شاء الله (على اسم أمه) هنا استدارت بطة ناحيته في عنف وقالت: كلا. نظر إليها في دهشة وقلق، إنه يعرف بطة جيدًا ويتوقع فاصلاً من "المناهدة والقمص" قادم بلا ريب. لكنه لا يستطيع أن يوافقها هذه المرة، فالبنت سيكون اسمها نظلة بلا أدنى ريب، فغضبة أمه ستكون كاسحة ولا قبل له بها إن رضخ لها هذه المرة، فطالما سبَّته ونهرته؛ لأنه تركها تختار اسم أمها للوليدة الأولى. ومن يومها رفضت أن تنادي حفيدتها باسمها سحر، بل راحت تناديها باسم منيرة، اسم أمها هي، وصار معروفًا للبنت الصغيرة أنها سحر هنا ومنيرة هناك.
قالت في تمرد وقد دبّ النشاط فيها: نظلة اسم قديم، وغير عصري.
فغر فمه في دهشة وتراقص شاربه المضحك: عصري؟ يا لها من حجة مكشوفة!! .. حجة "قرعة"، منذ متى كانت بنت (أم سحر) فتاة عصرية؟ .. الله يرحم أيام ما كانت أمها تخدم في البيوت قبل أن يذهب ابنها لإيطاليا ويعود بسيارة نصف نقل وسجائر مستوردة.
قال في تصميم: هي نظلة، اسم أمي.
قالت في تمرد: اسمها داليا.
- نظلة.
- داليا.
- نظلة (بتصميم).
- داليااا.. (في ضعف).
وانخرطت بطة في البكاء، بكاء من النوع الذي يذيب القلب، قلب عبد الوهاب بالذات، لكنه كان موصدًا هذه المرة، ليس موصدًا بالضبط وإنما مخلوعًا من غضبة أمه القادمة التي لا تبقي ولا تذر؛ لذلك انصرف غاضبًا وقد حمل الطفلة معه دون أن يقصد، وعندما وصل لباب الغرفة توقف وتراجع ليعيدها إليها.
لكنها أدارت وجهها غاضبة وقالت إنها لا تريدها ما دامت عاجزة عن ممارسة أبسط حقوقها حتى تسمية ابنتها بالاسم الذي تريده، فليأخذها هو ويربيها، ويرضعها ويغسل لها الكافولة أو يشتري (الحفاظات). عند هذا الحد كان صبر عبد الوهاب قد نفد، فزعق زعقة رهيبة انخلع لها قلبها فانكمشت منخرطة في البكاء. نظر إليها شاعرًا بالذنب، ثم وضع الوليدة على حجرها في رفق وانصرف.
الأمهات الحانقات
كان غاضبًا على بطة المدلّلة العصبية، وغاضبًا على أمه التي لا تكف عن شتمه وضربه، وغاضبًا أيضًا على نفسه؛ لأنه قد بدأ يحن لاسترضاء بطة.
لكنه كان لا يقدر، بالفعل لا يقدر، غضبة أمه مروعة ولا قبل له بها. وقال لنفسه في ضيق ألا يكفي أن بطة لا تلد إلا الإناث، وبدلاً من أن تخجل من نفسها لأنها لم تنجب الولد الذي يريد، في الحقيقة هو لا يهتم كثيرًا لكن أمه تهتم.
يجب أن يؤدبها، رجل غيره أكثر حزمًا كان سيروض بطة تمامًا، ولكن الحقيقة أنه يحب دلالها كثيرًا ولا يضيق به، ولكن ماذا يفعل في أمه؟؟ يا ربي إنها مسكينة، شاحبة وضعيفة، مدللة وصغيرة، ولكنه أيضًا مسكين، أمه أيضًا مسكينة وتعتبره رجلها بعد موت أبيه وسفر أخيه الأكبر إلى إيطاليا مع من سافروا من أهالي الحي.
والآن ماذا يفعل، ربما لو أعطى نفسه الفرصة ليفكر لوجد اسم داليا جميل فعلاً.. دلال ونعومة يليقان ببنت بطة، ولكن أمه!!
على هذا النحو أنفق عبد الوهاب ليلته في التفكير حتى استسلم للنوم.
صراع الجبابرة
في الصباح المبكر استيقظ عبد الوهاب ومضى مسرعًا إلى المستشفى قبل أن تأتي أمه، وتمنى لو كانت المحلات قد فتحت أبوابها ليبتاع هدية صغيرة لبطة التي أوحشته بالفعل، وجد نفسه مصممًا على استرضائها ولو كان الثمن غضبة أمه، بضع شتائم وربما لكمات من قبضتها النحيلة الصلبة، علقة تفوت ولا حد يموت. فلتكن داليا، يعلم الله لقد حاول، ولكنها أمها على كل حال، هكذا سيقول لأمه. ولكن فوجئ بأمه هناك.. ينمّ وجهها العابس أنها قد فهمت الأمر برمته، قالت له بلهجة نهائية: البنت اسمها نظلة، فاهم يا ابن بطني؟. ابتلع المسكين ريقه وهو يتذكر تضحيات أمه من أجله حينما كان طفلاً ضعيفًا وغمغم: طبعًا نظلة.
بطة قالت في دلال: داليا يا عبدوتي.. فاهم؟
اهتز شاربه المضحك وهو يتصور أيامه المقبلة مع بطته الدلوعة فقال: آه داليا.
لكن أمه شخطت، وبطة بكت.. راح يقلب عينيه بين هاتين المرأتين ثم ابتعد -وهو يهز هيكله الضخم- مغادرًا إلى السجل المدني ليقوم بتدوين اسم الوليدة.. وطيلة الطريق يكلم نفسه كالمجنون.. داليا.. نظلة.. داليا.. نظلة.
وهناك سأله الموظف وهو يقضم قطعة من الساندويتش ويدوّن البيانات في دفتر أمامه.
- البنت اسمها إيه يا أستاذ؟
المؤلف يهرب
والحقيقة أن هذه القصة الخطرة قد انتهت عند هذا الحد؛ لأن المؤلف وجد نفسه في مأزق فظيع غير قابل للحل بين امرأتين غاضبتين.. ولم يجد أمامه سوى أن ينهي القصة بسرعة وينفذ بجلده تاركًا عبد الوهاب المسكين يحل مشكلته بنفسه.
واقرأ أيضاً:
الفاكهة والنساء / أحمــد.. ومنى