إهداء عابر
أخيرا يا صاحب الوجهين..
تلاقت عيناك بعيني، أشحْتَ بهما عني وتظاهرتَ بالانشغال. صعقتكَ المفاجأة، وبدت سَكرة الماضي وصمة في طيات وجهك. تناثرت كلماتك وتبعثرت، متصلة تارة منفصلة أخرى، أربكتك.. تسترقُ نظرة أخرى وتمعنُ أكثر.. حسبُك!! أنا هي، وهي أنا.
السنواتُ العشرُ لم تغيرني، كنتُ جميلة ثائرة وسأظل الأجمل، شعري الفحمي ما زال منسابا، نظراتي المتوثبة النزقة في حالة تأهُب، والكحلُ الأسود أضحى راسخا عميقا.. يعلنُ الحدادَ على..
رفات حبـك
حول جثة شاب في المشرحة، ولدت باكورة قصتنا. كنت أحاول استيعاب منظر الموت ورائحة الفورمالين، تنتابُني قشعريرة لمجرد فكرة لمسِه.. يومها اقتحمتَ علي تأملاتي وأفكاري الصغيرة، أخذَتَ تستعرض وتستطرد في تفاصيل تشريح اليد والساعد..
ثم اخترقتَ كل دوائري المغلقة، وبتحد واجهتـَني:
ـ خائفة؟
- "لا"
ـ إذن، صافحيه
رمقتـُكَ بنظرةٍ حادة لا يمكنك أن تنساها وصافحتُ الجثة.. تمالكتُ نفسي، وخرجتُ براية المنتصرة، لكن اليد المتخشبة المبسوطة ظلت تعكر علي صفو أحلامي لمدة أسبوع كامل. ثم انقضت شهورٌ قبل أن أصادفك ثانية، برقت عيناك وابتسمتَ لي ابتسامتك الذكورية المغرورة، تجاهلتـُك.. زادت بسمتك اتساعا، فتجاهلتـُك أكثر.. استشطتَ غضبا كطفل مدلل وانقلبت ملامحُك رأسا على عقب، أصبحتَ في حالة فوضى.. انكسارٌ حزين دثـر قسماتك.. لقد أصبتَ بحمى الحب!..
لا تزال الحضرة الواثقة تلفـُك.. اكتسى سالفاك بشعر أبيض منثور وامتلأ وجهك، ازددتَ جاذبية واتزانا. تقترب مني أكثر.. ظلٌ يشدك، يد الزوجة الارستقراطية تطبق عليك كاللجام، ذلك الزيف مرسوم على نصف ابتسامتها، شعرها المصبوغ، تبرجها الصارخ.. لكنه يناسب ذوي السلك السياسي الرفيع.. يدٌ تشدك للوراء، تسحبك إلى زاوية مظلمة، تفلتـُها بلطفٍ وتقترب نحوي أكثر..
أتذكر؟ كتاب المناعة واللقاحات.. نسخة مترجمة، تحمل اسمك وشيئا برسم يدك، وأحلاما عِـفـْتها وحبا خلدتَهُ بإهداءٍ دون توقيع: "لا أحتاج لوضع اسمي، بصماتي يثبتها الطبُ الشرعي".. قلتـَها مازحا مفعما بالتحدي.. ومضة من نور الله تلألأت في ناظريكَ ثم خبَتْ...
ـ كيف أحوالك؟
جملة متهدجة مرتجة، انطلقت لتدك حاجزَ النظرات.. لحظة ثورية.. هكذا تخيلتـُها، بل انتظرتـُها.. تمرستُ عليها ويلا.. طالما أنهكتني وأقضت مضجعي، عطشُ الكبرياء الأنثوي آن له أن يرتوي!
أجبتكَ ببرودٍ لم تعهدْهُ:
- "كما ترى، بأحسن الأحوال"
بنظرات زائغة خجلةٍ تردفُ:
ـ تكريمٌ تستحقينه.. طالما كانت لك..أ.. .. ..
- "هل وجودُكَ هنا بغرض الدعاية السياسية؟"
تنتفضُ:
لا.. .. لا.. ..
- ..إذن، دعوة من إحدى الجمعيات النسوية من طرف.. .. .."
احمرتْ وجنتاكَ واتسعت عيناك.. صوبتـَهُما إلي مباشرة:
ـ ما زلتُ أحملُ إجازة المهنة والزمالة البريطانية، أرجوك...
- "ربما مضى زمن... لم أعد أذكر أي شيء"
تبتسمُ بحزن:
ـ أي شيء"
- "شيء واحد.. كتابٌ كان مصدر إلهامي، في أول أبحاثي.. ترجمتُ النسخة المعدلة منه وأضفت إليه بضعا من دراساتي.. ربما يصبح مصدر إلهامك، ما عدت أحتاجه...".
رعشةٌ صغيرة تسري في أطراف أصابعك.. تحملُ كتابك دون مقاومة، تـُحكمُ قبضتكَ على مصدر إلهامي.. تتأملُني طويلا، ثم أغادرُ فضاءَك إلى منصةِ التكريم.
واقرأ أيضا:
تدلي!! / واجهني!