تَبرقُ السماء، تسقطُ قطرةُ ماءٍ هنا، هناك، تُتابِعُها هي بنظراتِها، تتزايدُ القطرات، تتسارع، يضيعُ بصرُها بينَ حباتِ المطر، مدَّت يديها للخارج، كانت قد خلعَتْ قميصَها الأسود ذي الأكمامِ الطويلة، أرادت أنْ تخلعَ كلَّ ملابسِها لتغتسلَ بما تجمعه كفاها من مياه، ترددت، غيرت رأيها، لم تخلعْ سوى الأسود، حلَّت رباط شعرها، يحلقُ مع الهواء، يغطي وجهها، يكشفُهُ، يغطيه مرةً أخرى، ابتسمت، للمطر؟ للغد؟ للحياة؟
سمعتْ صوتاً، نظرَتْ لأسفل، قطةٌ تموء، مبللةٌ هي أيضاً، تموءُ القطة، لم تصمتْ، أزعجَها الصوت، بل أحزنَها أكثر، أرادتْ أن تبعدَها "هِش هِش" لم تبتعدْ، بقيت تموء، زادَ حزنُها، فتحت الخزانةَ بهدوء، أصدرت صريراً، نظرتْ إليه، خشيت أنْ يستيقظ، بقي نائماً، أخذت قطعةَ خبز، قطعةَ جبنٍ أيضاً، لم تغلقْها خِشية إصدارِ الصوتِ مرةً أخرى، خرجَتْ على أطرافِ أصابعِها، لم ترتدِ حذاءاً، ربما سيوقظه صوتُه، نزلَت الدرجَ ببطء، ما زالت القطةُ مكانها "بِس بِس" نادتها، اقتربَ المخلوقُ الضعيف، رمت قطعةَ الخبزِ والجبن كذلك، ركضت القطةُ باتجاهيهما، أخذت إحداها وابتعدت
غابت بضعَ دقائق، عادت لم تعدْ وحدَها، عادت ومعها قطتان صغيرتان، اجتمعت كلُّها حولَ القطعةِ الأخرى، أحزنَها المنظر، يذكرُها بشيءٍ ما، ماضٍ أرادت نسيانه، الابتعادَ عنه، كانت ما تزالُ في الثامنة عندما رأتْهُ لأول مرة، كان متأبطاً ذراعَ والدتها، دخلا الغرفة، لم تعرفْه هي "ماما ماما" كان غريباً، ما زالت تذكرُ كيف وضعتها أمها في فراشِها الصغير، أغلقت الباب، لم تتركْها تخرج من المطبخ تلكَ الليلة، نامت هناك، في الصباح، لم يكن الغريبُ موجوداً، غادرَ كما أتى، لم تقلْ لها أمها شيئاً، منذ تلك الليلة كثرَ الغرباءُ في بيتهم، وكثرَ مبيتُها في المطبخ.
خشيت أنْ يستيقظ، أسرعَتْ لأعلى لكن بهدوء، نظرتْ إليه ما زال نائماً، فاتحاً فمه، صوتُ شخيرهِ يصدحُ بين جدرانِ الغرفةِ البالية، لم تكنْ تريدُ النومَ بجانبه هذه الليلة، غاضبةٌ هي عليه، صفعَها عندما علمَ بالأمر، أمسكَها من ذراعيها ودفعها أرضاً، لا يريدُ شيئاً يربطه بها، شاهداً على ما كان بينهما، اقتربتْ من السرير، أمعنتْ النظرَ فيه، أرادتْ أنْ تتخلصَ منه تماماً كما أرادَ هو التخلصَ منه، وضعَتْ يدها على بطنها، أمدها الجنينُ بالقوة، زاد من عزيمَتِها، من ثقتِها بنفسها، ابتسمت، رأتْ إبريقَ الماء، أرادتْ أن تحطمَ رأسَهُ به، رفعَتْهُ لأعلى، فتحَ عينيه "شو عم تعملي؟ما بِدك تنامي؟"، "إيه إيه، عطشان؟ بدك تشرب؟"، جلسَتْ بجانبه، نظرَت إلى المطبخ، ما زال الضوءُ فيه مشتعلاً.
واقرأ أيضا:
حواديت العباسية / صمودٌ على حافة الجوع