عقارب ساعته تقترب من الثانية صباحًا، وهو لا يزال واقفًا على كورنيش الإسكندرية مستندًا على سيارته الفارهة، وقد تطلع ببصره إلى اللاشيء، حيث تلتقي تلك السماء الملبدة بالغيوم مع أمواج البحر الغاضبة في خط أفقي كأنه يفصل بين عالم الواقع وعالم المجهول.
وعلى الرغم من برودة الجو في تلك الليلة من ليالي الشتاء، إلا أنه كان يغيب عن الإحساس بذلك في بئر من الأفكار السوداء التي ملكت عليه كل جوارحه. فلم تكن تلك هي المرة الأولى التي يفزعه فيها ذلك الحلم الذي أطار النوم من عينيه وخلفه غريقًا في بحار الحيرة. لقد رآه هو نفسه بتفاصيله القذرة منذ شهرين تقريبًا. ترى هل هي مجرد هواجس نفس، أم أن للحقيقة نصيبًا فيه؟ هل بالفعل أن زوجته التي أحبها بكل كيانه وآثرها حتى على أهله وعشيرته تلقي بذلك كله وراء ظهرها وتقع في حبائل الخطيئة؟ ومع من؟ مع رفيق طفولته وصديق شبابه. ذلك الذي فتح له باب بيته على مصراعيه ليدخل ويخرج كيف يشاء وقتما يشاء.
لا.. لا.. لابد إنه شيطان أثيم يريد أن ينغص عليه هدوء حياته، ويقوض أركان ذلك البيت الذي أساسه الحب والتفاهم بينه وبين زوجته. ولكن ربما كان الملل والوحدة قد دفعاها لذلك؛ فقد مضى من عمر ذلك الزواج ستة أعوام ولم يقدر الله لهما خلالها الذرية. كذلك فإنها لا تعمل وهي انطوائية لا يكاد يكون لها أصدقاء يعرفهم.
حتى وإن مالت هي فصديقه لا يمكن أن يميل، إن ما يربط بينه وبين صديقه من روابط أكبر من أن تلوثها غدرة مثل هذه، ولكنه بشر وهي شابة وجميلة.
"نعم.. وإلا فلماذا كانت تبكي أحيانًا وبدون سبب، ونحن في قمة لحظات السعادة الزوجية؟ وعندما كنت أسألها عن ذلك كانت تتعلَّل بأنها تخشى أن تحرمها الأيام من تلك السعادة، لابد أنها في تلك اللحظات كانت تؤنب نفسها وتندم على ما قد بدر منها من خيانة لذلك القلب الطيب الذي احتواها بكل حنانه وتضحياته".
بدأت السماء تقذفه ببعض القطرات لتكتمل سيمفونية العذاب بداخله. بينما ارتفع صوت ارتطام أمواج البحر بتلك الأحجار الكبيرة التي تناثرت على الشاطئ.
"لماذا كانت ترفض الحضور معي إلى الإسكندرية في رحلات عملي وتفضل البقاء وحدها في شقة الزوجية بالقاهرة؟ حتى إنها كانت ترفض الذهاب للمبيت مع أمي في بيتها، لابد أنها كانت تتحين تلك اللحظات لتنفرد بذلك الذئب في منأى عن نظري وسمعي. لا بد أنهما قد ضحكا كثيرًا على سذاجتي، ترى كم مرة ارتمت في أحضانه على سرير نومي؟".
اشتد هطول المطر عليه فأفاق من أحزانه، التفت يمنة ويسرة فلم يكن حوله كائن حي، اللهم إلا ذلك الشبح الأسود الذي لمعت عيناه الزرقاوان في ظل السيارة وكأنه وقف ليحتمي بها من قذائف السماء، تمنّى لو أنه هو ذلك القط البائس، حتى وإن جارت عليه الليالي الباردة، وإن قسى عليه الجوع، إلا أنه لا يعرف الضمير، ولا يستمسك بفضيلة، ولا يذوق طعم الخيانة.
فتح باب السيارة ودخل فيها محتميًا من الأمطار ومن صوت ذلك الرعد الذي ملأ سكون الليل ضجيجًا. "ماذا عساها تفعل الآن؟ هل هي نائمة؟ أم أنها تفكر بي وأشغل بالها كما أقضت هي مضجعي؟ وربما تكون الآن غارقة في لذتها الآثمة وقد أتاح لها سفري فرصة كبرى لخيانة جديدة".
بلا شعور امتدت يده إلى المقعد المجاور، حيث كان قد وضع هاتفه الخلوي، أمسك به وقام بفتحه، أسرعت أنامله بالضغط على أزرار حفظتها. على الطرف الآخر سمع صوت الجرس مرة.. مرتين.. ارتفعت السماعة هناك. فغر فاه من هول ما سمع. بلا وعي أدار محرك السيارة وانطلق كالمجنون يطوي طريق الإسكندرية - القاهرة طيًّا.
لقد كان صوته.. إنه هو.. صديقه.. يجيب عليه من شقة الزوجية.. وقد تجاوزت الساعة الثانية والنصف صباحًا.. "لقد اتضح الأمر جليًّا ولا يحتمل التأويل.. يا لجرأته.. وبكل وقاحة يجيب هو على الهاتف وكأن البيت بيته.. هذا الخائنة سوف أقتلها".
لم يدرِ كم مر عليه من الوقت حتى وجد نفسه واقفًا أمام البيت الذي يحتل منه الطابق الثالث. هبط من سيارته. تطلع إلى الأعلى حيث تظهر نافذة غرفة النوم. الأنوار مضاءة، إذن فهو لا يزال موجودًا، اتجه مباشرة إلى السلم، شعر أن قواه بدأت تنهار، ترى على أي وضع سوف يجد زوجته، لقد صعد هذا السلم مرارًا إلا أنها المرة الأولى التي يشعر فيها أنه يسكن بعيدًا جدًا عن الأرض. هل يصيح ويجمع الجيران ليكونوا شهودا على تلك الفضيحة؟ شعر أن وزنه قد أصبح أطنانًا وأن قدماه تعجزان عن حمله. ما أطولك من سلم!!.
اقترب من باب شقته رويدًا. وجد الباب مفتوحًا، لا بل مكسورًا، نظر إلى الداخل، ثم.. ثم اختلطت في ذاكرته الصور والشخوص. بعض الجيران، ضابط شرطة ومعه بعض الجنود. سمع صوت نهنهة مصدرها غرفة النوم. هناك.. صديق عمره يقف إلى جوار السرير. طبيب. أمه تجلس على أحد جانبي السرير وعلى الجانب الآخر وجد زوجته بثياب النوم إلا أنها كانت شاحبة فوق العادة وقد ازرقت شفتاها.
إلى جوارها وجد بعضًا من صور زفافهما وقد تساقطت عليها بعض دموع أمه. تقدم إليه صديقه هوينى قائلاً: "البقية في حياتك، لقد حاولنا الاتصال بك ولكن هاتفك كان مغلقًا، لقد اشتم الجيران رائحة غاز فأبلغوا الشرطة.".
واقرأ أيضا:
هذا الرجل قتل نفسه / الخيانة أون لاين