انطلقت أنفاسي تلهث ببكاء يتهدج داخلي منذ مدة.. مفتقرة للدفء الذي أشاحه برد مدقع ينخر ظهر أحلامي.. لا أدري من كان أسرع؟ وقع أقدامي، أم سباق أنفاسي أم تحدي كليهما لضربات قلبية مدوية تكاد تميتني قلقا؟؟!!..
وبدا لي الآن بأن لي قلبا ينبض.. لا أعرف موقعه من الإعراب وأنا دوما أنسى أين يقع في خريطة الحقيقة..؟؟ لا يهم.. فالأهم الآن أنني أشعر به يكاد ينفجر كمن يريد تعويض أيام حرمانه من إهمالي لوجوده..؟؟!!
كل هذا يعتريني وكأن المسافة تطول بي قصدا؟!.. مع أنها هي ذاتها دكانين شاخ بهما الزمن ليكتسح جدرانهما الشيب المتهالك.. ثم أنعطف يمينا لأصل بعد ثوان لشجرة زيتون..تغسل دوما أحزاننا وتنشر على جذوعها أفراحنا وذكرياتنا..
ياااه كم أكره الذكريات؟؟!!.. فهي تتلقفني من أقدامي سطوا؛ لأتمنى من رجاءها أن أعود لأكرر تلك الأيام ثانية.
لكن هذه اللحظة هي ما أملك.. ليس هناك وقت لشيء آخر.. إنه ينتظر.. يسند ظهره بالتأكيد على شجرتنا كالعادة، يرمي حجرا صغيرا في عين الريح، أتوقف فجأة.. إنه هناك.. كما هو دائما، بنفس السريرية أشعر به.. خلجاته تعتريني دون رحمة.. كأنني أرتدي معطف نفسه، وكأنه يستنسخ وجداني.. وقفت أتأمل عند عينيه مدني وأحلامي.
وصلَته ذبذبات وجودي ليلوح لي مبتسما.. يعلم أنني لن أتأخر.. يكفي أن يرسل ابن الجيران ذو الأعوام الستة بورقة صغيرة معلقة في فم مشبك غسيل لتطير من على أسطح بيوتنا العتيقة.. لأكون عنده في التو واللحظة.
تنفست عميقا مرارا وتكرارا قبل أن أصل قريبا منه، وقبل أن أحول ذيول الصمت لجملة بعلامة استفهام تسترق النور على شاكلة: كيف أنت؟؟..
يبتسم ليجيبني بتلقائيته وكأنني أسأله مائة سؤال.. فيسهب؛ لأرتاح.. يحكي لي عن غيابه، عن مشواره الذي أخذه مني فترة طويلة فجأة بدون إنذار أو وقاية.. جعلتني أعد لها على مسبحة الأيام.. حتى لم أعد قادرة على العـد..؟؟!!
يلقيني دوما بين أحضان دهشتي به.. ليسخن وجهي ليس من حر الطقس وليس من مرض؟؟!! إنما من حمى تعتريني حالما يتكلم!!
يسألني بتلقائية باسمة: ماذا حدث لك؟..
أستغرب سؤاله.. فلم أفعل شيئا لسؤال كهذا.. وأظنه يقصد "ماذا حدث لك في غيابي؟؟" .. "أو ماذا حدث لك بدوني؟؟".
كم أمقت إجابات الأسئلة التي تتصل بي... دونه؟؟!!.. فأهز رأسي لأعود بسرعة أسأل عنه... فيعود بزهور الطمأنينة، فأرتاح ممتطية الأرض، من غثيان شوقي له.. من حريق يشب وينطفئ في قلبي كلما تكلم أو صمت..؟؟!!
فها هو ارتدى الصمت، وتزينتُ التأمل.. ليلقي بالأفق نظره وسهم سؤاله: ليس هناك وداعٌ بيننا؟؟!!
صعق سؤاله شراييني، وتجمدت كلوحِ زجاج متهشم تكفي نسمة ريح لتنفخ فيه حتى يتناثر أشلاء على وجه الأرض تدارك الأمر بعدما انتبه لجرم سؤاله.. قائلا: تنفسي فإنما هو حقيقة أردت بها خيالا.
عدت للحياة بعدما ظننتني انقطعت.. لأسأل بفزع وحنق: حقيقة؟؟!! أي حقيقة هذه..؟؟!!
صمت ليقترض من اللغة رمقا يسد به فزعي، ويسد به قلبه: أعلم أنك لن تسانديني في أمر كهذا لخوفك أو لأنانيتك في بقائي.
وبابتسامة حانية مسّد بها رأسي لتستقر على كتفي كشارة جندي: ولكن هل تغارين فعلا من وطن يا غاليتي؟!!
انكمش وجهي ولجمت عيوني.. فهمت ما قصد.. أراد دوما أن يقوم بشيء يهز أركان العدو.. بعيدا عن خربشات حجر هي زاد أطفالنا.. وأبعد من بعض العمليات البسيطة، وكلما سألني الأمر، أعرض دون إجابة.. أخاف عليه وأخاف قبلها على نفسي بدونه.. يا لأنانيتي حقا..؟؟!!
غصة حرقت جوفي ودموع وقفت عند محجر عيني مصدرها وجع قلبي الذي لم يتوقف منذ "غيابه وحتى سؤاله"..؟؟!!
تنهدت بكاء.. فاستطرد: ستذكرينني دوما؟؟!!
رفعت رأسي بألم: وهل سأنساك حتى أذكرك.. فعلى تراب الوطن ستكون شجرةَ زيتون كشجرتنا.. وراية خضراءَ في سمائها.. وكيانا تنبض باسمك وباسم عشاقها..؟؟!!
أجهشت مقلتي بدموع سخينة... لأجيب نفسي بلسان حاله.. قائلا: كنت أعلم أن إعراضك قناع مستتر.. فنحن لا نستطيع إلا أن نكون قضية أنفسنا.. وأنا أريد أن أجعل رفعة "لقضية ذاتي".
أغمضت عيني وقلت له: اذهب.. وعدت لأرفع رأسي وأهديه ابتسامة مشرقة تخلد في ذاكرته، فأشرق وجهه نورا ما حلمت رؤيته.. فاطمأننت مكانه سلم علي ليختفي في سراب الأيام.. ليُستشهد بعـد بضعة أيام...
لألحق به في "قضية لذاتي أيضا".
واقرأ أيضا:
ذو الوجهين.. الحب في المول / 5 قصص قصيرة جدًّا