جاء الشتاء مبكرا هذا العام، وهبت رياح الشمال الباردة من جديد، فوقف مرتعشا شاخص العينين، يرسم أحد لوحاته الفنية فوق قطرات الماء المتكثفة كصفحة بيضاء، فوق بلور نافذته الزجاجية، ربما ستكون لوحته الألف التي ستولد مع أول خط من خطوطه العشوائية الضائعة، وتموت عند آخر لمسة فنية، عندما تتمرد اللوحة وتكون كالعاصفة التي أغضبت سكون البحر الصامت فيخرج من أعماق لجته المظلمة حطام الأزمنة الغابرة.
ها هي اللوحة تموت سريعا هذا العام وتمردت عناصرها وأطلت الحقيقة برأسها تسترق النظر، بعد أن كانت نائمة خلف لوحة صامتة تلف شتائه بدفء آمن، فأبى إلا أن يفسدها ويستبدل صمتها بارتعاشة الأغصان العارية، تصارع جنون الرياح الباردة وتصفع أجسادها حبات المطر دون رحمة رغم إعلانها الخضوع والانحناء منذ سنين في الساحة الخلفية من الحقل.
أحس بارتعاشتها وألمها وانحنائها كاليائس ينتظر الخلاص، وكما كل شتاء لم يحتمل ألم ما رسم، فأخذ ينفث أنفاس الخوف والدهشة الحارة لتعود قطرات الماء المتكثفة من جديد فوق بلور نافذته الزجاجية، فتعود لوحته بيضاء تنام خلفها لوحة أخرى تدعى الحقيقة... حقيقة الأغصان العارية.
وتمر الأيام والشهور يراقب فيها جمال اللوحة الفارغة وشفافيتها البراقة الأسرة، وفي إحدى ليالي كانون الباردة، أثاره صمتها وجمودها وكأنها تناديه، لم يستطع المقاومة، هب مسرعا يخط بإصبعه بهدوء حذر، فربما ستكون أجمل لوحة سيرسمها على الإطلاق، مع أنه كان يعلم أنه خلف كل ذرة بخار متكثفة ينام جزءا من الحقيقة التي أخافته منذ سنين.
ولكن التحدي بدأ يغرس بذور الأمل، ويبدأ بخطوط أكثر عشوائية من ذي قبل، وسرعان ما تشابكت الخطوط، والتهمت الحقيقة لوحته الفنية من جديد، أغصان عارية تبكي وتلحد عصفورا ودع الحياة بأجنحة متكسرة بعثرتها العواصف.
تحطمت جميع آماله ومزقتها الحقيقة، أحس بالندم وخوف عارم، كم أكرهك أيتها الطبيعة كلمة قالها وخرج من المنزل مسرعا غاضبا، يركض بين الأشجار تصفعه رياح الشمال بسياطها المتجمدة من الخارج، وعواصف من الألم والحزن من الداخل، تمطر جسده حبات البرد المنهمرة كالسهام كأنها تمزق جسده، وترهق عقله مئات من الكيف والأين ولما!! واصل التقدم وانحنى نحو العصفور باكيا وضمة بين ذراعيه رافعا وجهه إلى السماء شاكيا قساوة الطبيعة وتمردها، وبينما هو يترنح متألما، بدأ صفير الريح يعلو ويرتفع، وازدادت حبات البرد حجما وألما، أحس أن الجواب أتى مسرعا حتى أنه لم يعلم كيف أسلم جسده وانحنى كما الأغصان العارية، واخفض يديه كأجنحة العصفور المتكسرة، وكيف أن جسده يعانق بسلام ألم لذيذ ونشوة ساحرة، كأنه يرسل روحه ويسمو بها نحو عظمة مطلقة تناديها من خلف الطبيعة، تاركا جسده يعانق الوحل، وعينين شاخصتان تنظر إلى السماء، وقلب ينبض بالدفء ويصيح، كم أحسد روحك أيها العصفور، وكم أحسدك على آلامك أيتها الأغصان العارية.
واقرأ أيضا:
الوظيفة.. ظل الرئيس!! / هَزيمَةُ.. حِصَان