دوت صرخة رفيعة طويلة اشتبكت بخيوط أشعة الشمس الحادة التي غمرت الأرض باللهيب فور انبثاقها من وراء الأفق المعتم. انتشرت بالأجواء سحب ضباب خفيف متفرق ومع ذلك جعلت من الرؤية في الطريق السريع أمرا بغاية الصعوبة. مد سطام رأسه الضخمة محاولا اختراق الزجاج المتسخ لسيارة الجيب القديمة التي يقودها والنفاذ ببصره لمدى يسمح بالانطلاق بسرعة أكبر. بجواره جلس الشيخ سعفان بهدوء يرمق المشهد الباهت أمامه بلا مبالاة وجمود وكأنه بعالم آخر لا يمت للطريق والسيارة والسائق بأدنى صلة. وعجب سطام بداخله كيف تتجاوزه الكثير من السيارات فتمرق بجواره كالسهم دون أن تعطي أي مؤشر يدل على اقترابها الصاروخي. كان ينتبه لوجودها فقط عندما تعبر بلمح البصر فينبعث الصوت العنيف الناتج عن تخلخل وتضاغط الهواء بعنف بين الجيب وتلك العربات. خطر بباله أن يحول دهشته لسؤال يلقيه على عمه الشيخ سعفان لكن سرعان ما نفض الفكرة من ذهنه.
كان سطام طويل القامة جدا، عريض الكتفين، ضخم الرأس. وفي منتصف وجهه شارب كث أسود عملاق يعلوه أنف بارز جميل ومدبب يمنحه مع البشرة السمراء مظهرا يبعث على الهيبة ويذكرك برجالات البادية القدماء لكنه يتناقض بشدة مع رثاثة ملابسه (ثوب أبيض خفيف من قطعة واحدة) وخفة عقله التي دل عليها إعراض الشيخ سعفان عن محادثته طوال الطريق.
انقشع الضباب تدريجيا مع تقدم النهار وتراجع كل ما يمت بصلة لمملكة الليل والظلام. أَضحى الوجود صافيا.. واضحا.. رائقا.. لا تشوبه شائبة أو يعوق الرؤية شيء. وتبدت لأعين المسافرين معالم الطريق الصحراوي العريض. رمق الشيخ سعفان رمال الصحراء بعينين خبرتا دروبها وطرقاتها. تتابعت على جانبي الشارع من حين لآخر آليات عسكرية محترقة قديمة يعلوها الصدأ والركام. لم يكن من الصعب أيضا أن تلمح سيارات مدنية مسحوقة محشورة بين أكوام من الدبابات المعطوبة والموقفة بإهمال في قلب الرمال. مرت الأبصار بكل هذا وظهر أنه مشهد مكرر مألوف لا يلفت الانتباه.
بيد عريضة خشنة، وسمراء حتى الاسوِداد، قبض سطام على عجلة القيادة وعقله يحاول جاهدا البحث عن تفسير منطقي لما حدث في الصباح الباكر. كان ينام بأمان الله في بلدتهم الصغيرة بقلب الصحراء، تلك البيوت البسيطة المبنية من الطوب والطين الجاف تحيط بها مضارب العشيرة وخيامها الوبرية السوداء. ومن مكان إلى مكان تشتعل نار ما، وتغلي القهوة، ويغوص مقبض حديدي في كومة جمر ملتهب. تنام الخرفان والقطعان الساعة بسكينة وسلام فلِمَ أيقظه الشيخ سعفان الآن؟! تسللت يد واثقة وهزته برفق، وبينما كان ينفض وطاويط النعاس المتحلقة حول رأسه الثقيل طالعه وجه شيخ العشيرة وعمه.. فزع.. لكنه اطمأن بعد أن طلب منه بإشارة قصيرة أن يتبعه. وقاده إلى سيارته الجيب الصحراوية، وأخبره أنهما يجب أن يغادرا البلدة والمضارب قبل طلوع الشمس وبسرية تامة. لكن إلى أين يا شيخ سعفان؟ لا جواب.. فقط نفذ المطلوب دون أسئلة.
ارتفعت الحرارة عشرة درجات مئوية على الأقل، وأدرك سطام بغريزته الفطرية أن اليوم سيكون ملتهبا بصورة غير مألوفة. والتفت بطرف عينه نحو الشيخ سعفان لكنه ألفاه شديد الهدوء، يغوص بعباءته السوداء ويمعن النظر للأمام. فكر سطام للمرة الألف منذ أوقظه عمه أن يسأل عن وجهتهما لكنه فضل ابتلاع لسانه والصمت تماما حتى يأتي الفرج.
كالصاروخ انطلقت السيارة القديمة - لكن القوية - تشق الريح وتلقي تحية معدنية صامتة على أكوام أخواتها العربات اللاتي سبقنها للقبر. وقبر السيارة أن يراها كل الناس.. الغادي منهم والرائح.. المقبل والمدبر.. والمهتم أو غير المهتم.. الكل بلا استثناء.. أن تنام على قارعة الطريق مع جيوش من الموتى في مشهد طويل طويل يتكرر أمام كل مسافر.
يرعى سطام أغنام أبيه الميت وهو الرجل الوحيد بأسرته المكونة من الأم وثلاث أخوات. كان يشعر بالفخر لكونه رجل العائلة والآمر الناهي، على الأقل أمام الناس، لكن ما يثير غبطته أكثر من أي شيء آخر هو تبني عمه الشيخ سعفان له ووصايته عليه. لم يكن أبوه أكثر من راعي غنم أما عمه فهو كبير قوم ووجيه دار.. وشتان بين الرجلين حتى لو كانا أخوين. طفت ابتسامة على وجه سطام وهو يقود الجيب وساوره لأول مرة ارتياح مبهج لكون الشيخ سعفان قد اختصه بسر خطير وطلب منه دونا عن كل رجال العشيرة مرافقته بهذا المشوار الليلي الغامض.
رمق الشيخ سعفان ابتسامة سطام التي ظهرت فجأة دون سبب ظاهر وهز رأسه بأسى. كان يأسف لغباوة ابن أخيه رغم ضخامة ومتانة بنيانه. بدا له لحظتها المثل القائل باستحالة كمال أي إنسان وكأنه قانون سماوي يستعصي على الانكسار. ولم يطل التفكير بكتلة اللحم والعظام الهائلة المستقرة بجواره، فقد عاد يغوص بذهنه فيما جعله يخرج من الصباح الباكر وتكشفت طيوف الهم والغم من جديد أمام وجدانه القلق الحائر.
لم تعد الحياة رعي أغنام فقط بدُنيا سطام. أصبح لوجود عمه تأثير كبير مباشر على الآخرين، فهابوه وخافوه واحترموه رغم أنه بسن لا يحترم بها الشباب في عشيرة تضرب خيامها بقلب الصحراء وتحيا على الكرامة والكفاءة وحدها. بات بمقدوره بمرور الوقت أن يشتري بنقود معنوية محدودة بعض همم صغار السن من الفتيان، فأمن رعاية القطيع، وعثر لأول مرة بحياته على وقت فراغ يتيح له التجول دون عمل. شاهد أشجار النخيل والنباتات الخضراء والمصفرة الطويلة الأوراق تبرز من برك المياه الآسنة ومن جوار القنوات والترع. وعند عين الماء جلس يراقب معظم سكان البلدة يأتون لملء جرارهم بالسائل الثمين. ودهش سطام. لم يكن قد رأى من قبل كل هذا العدد من البشر يتجمع في مكان واحد والأعجب لغاية واحدة. وقف من بعيد.. بقامته الضخمة.. يتطلع بفضول.. ويرمق الناس بعيون خاوية تبحث عن شيء لا تعلم بعد كنهه.
سعل الشيخ سعفان بقوة أفزعت سطام، وتناول منديله ليمسح فمه ثم أطلق تنهيدة قوية ربما كانت أول إشارة صوتية تدل على أن انفعالا ما يدور بأعماق هذا الشيخ المهيب منذ أن تحركت بهم الجيب. وسعد سطام بهذا، وأشرع أذنه المواجهة لعمه كالحمار عله يسمع تعليقا ما يوضح ما غمض من شأن الرحلة كلها. لكن العم حافظ على صمته ولم يتكلم. وكيف يتكلم؟! أو يمكن لهذا الشاب الأحمق القابع وراء مقود الجيب أن يدرك فداحة المصاب وشناعة ما حصل؟! وهمهم الشيخ سعفان ليطرد هاتفا دوى داخله بأنه هو أيضا لا يدرك ولا يهتم. كان يشعر بذلك بقوة رغم أن عرق كرامة مدفون عميقا في ذاته قد تلوى بألم ليدفعه للاحتجاج ومن ثم الحركة. هو هو.. الشيخ الكبير والزعيم المسؤول عن عزة كل من بالقبيلة. لا يمكنه أن يصمت ولن يفعل حتى لو اضطرته ظروف لا يعرفها للمهادنة. سيقاتل.. لا يدري بماذا.. بسطام؟! لكنه سيقاتل حتى آخر لحظة ما دام بصدره نفس واحد يتردد.
ومن بين القادمين من أجل الماء لمحها.. لأول مرة.. كانت هي.. ترفل بحجابها الأسود الطويل المنسدل عليها من الرأس حتى أطراف أصابع قدميها الدقيقة الجميلة (رغم أنه لم يرهما لكنهما حتما كذلك). وجن جنونه. في البداية كان جنونا هادئا لذيذا من النوع المحبب للكبار لكن تضيق به صدور الشباب اليافعين خاصة الذين لم يذوقوا طعم المرأة من قبل. وعندما تحول ما بقلبه إلى بركان ثائر ينفث حمما من الانفعال تحرق روحه وتعذب وجدانه لجأ لشيخه وعمه وسيده. ابتسم له ووعده خيرا. من اليسير على شيخ القبيلة إطلاق الوعود فهي لوحدها عماد حياة كاملة بكافة جوانبها وأبعادها.
أن تبدأ الحياة أمر سهل.. سهل للغاية.. أسهل مما يظن كل الناس. الصعب هو أن توقفها.. أن تمنع عجلتها من الدوران.. أن تخمد شعلتها الدافقة الحيوية. لذا كان من عمل الشياطين وحدهم أن تقتل وتدمر كل البشر.. عن قصد وتعمد.. ولغرض اللهو والمتعة. هذا ما دار بخلد الشيخ سعفان. والموضوع نفسه يفكر به العملاق الراقد بجانبه لكن ما أعجب ما بين الطريقين المتضادين من اختلاف.
أصبحت أشعة الشمس عمودية، وتصاعد مؤشر الحرارة بسرعة جنونية تذيب المخ في جمجمته وتدفع الأنفاس اللاهثة بأقصى قوتها. وحانت التفاتة من سطام للوحة القيادة وراعه ما رأى. كان الوقود على وشك الانتهاء فهو لم يكن يتوقع الرحلة الطويلة المفاجئة. أخبر عمه الذي تضاعف الضيق على وجهه ألف مرة وألقى بعدة عبارات متبرمة وصب سخطه على ابن أخيه لكنه سرعان ما أدرك بقرارة نفسه أنه غير مسؤول عن شيء.
- توجد محطة وقود قريبة. سنصل إليها بعد دقائق يا عمي الشيخ.
وأراح العجوز ظهره على مقعد السيارة التي نهبت الطريق وعاد يفكر بعمق بمشكلته الخاصة ورحلته وكيف ستنتهي.
أخذت سحب من غيوم سوداء تتراءى بالأفق من بعيد. ليس بغيم في هذا الجو الملتهب. الدخان أكثر خفة وأقل تركيزا. رائحة وقود محترق وشياط. الشمس الساطعة نفسها تذوي وراء الغلالة السوداء لكن الحرارة الرهيبة ظلت كما هي. لم يلقي أحد بالا، وتابعت الجيب طريقها كما تفعل كل السيارات الأخرى.. بانتظام.. وبوتيرة ثابتة.. لكن متسارعة. أجل. زادت سرعة الآخرين عن المألوف، وعوت المحركات التي تعمل بأقصى طاقتها، وظهرت العربات وكأنها بسباق خفي محموم. راقب الشيخ سعفان الطريق بدهشة مكتومة، أما سطام فتابع القيادة بنفس سرعته دون أن يلاحظ شيئا.
لاحت من بعيد إشارة محطة الوقود التي تحدث عنها سطام فشعر الشيخ بالراحة ونظر لساعته. اقتربوا أكثر.
- ما كل هذا الازدحام؟!
هتف الشيخ سعفان بابن أخيه الذي قلل من سرعة الجيب وهو يمد رأسه محدقا دون فهم.
اتضحت ملامح عشرات السيارات.. من كل الأنواع.. صغيرة ببابين.. سيارات صالون فارهة.. وشاحنات ومقطورات وجرارات.. كلها تراصت بخط واحد يبدأ قبل المحطة بمسافة طويلة جدا.. بكيلومترين أو أكثر على الأقل.
وقفت الجيب بمحاذاة إحدى السيارات، وصرخ سطام براكبها يسأله عن الذي يحدث. لم يسمع ردا، فصرخ مرة أخرى لكن الصمت المطبق هو ما جاوبه. كاد الشيخ سعفان أن يصرخ بنفسه لولا أن لمح الجنود فجأة بالقرب منه. سكت تماما وابتلع لسانه. أدرك من حركتهم أنهم ينظمون الخط الطويل وأن كل هذه السيارات لا بد تنتظر أن يأتيها الدور لتعبئ خزاناتها الفارغة بالوقود. غلى الدم بعروقه. هو.. الشيخ سعفان.. زعيم عشيرته وشيخ الشيوخ الجليل.. ينتظر مع كل هذه الحشود الهائلة.. ومن أجل ماذا.. التزود بالبنزين؟؟ كاد الجنون يفقده صوابه لكنه لم يدري ماذا يفعل. نظر إلى سطام فوجده يحدق بالناس وبالجنود وبه ببلاهة. رفع رأسه بحدة فاصطدمت عيناه بلافتة محطة الوقود الضخمة التي تبدو شديدة الوضوح من بعيد وكأنها تتحداه وتخرج لسانها بوجهه قائلة أنا هنا.. أمامك.. لكن عليك الانتظار طويلا حتى تنالني.
مر الوقت بطيئا.. ثقيلاُ.. خلع سطام ثوبه وألقاه بالجيب، ومضي يسير عاري الصدر بجانب سيده وشيخه ووليه. لم يعر شيئا مما حوله أي اهتمام وغرق بالتفكير فيمن خلف وراءه.. بقلبه.. هناك في مضارب القوم. لا بد هي تتمايل الآن بجوار الأقنية وفوق الأرض الرطبة بخفة الغزلان. ومنحه العري المفاجئ مع العرق المتجمع على صدره وبإبطيه إحساسا مؤقتا بالانتعاش سرى عنه كثيرا. يحلم بالمغطس البارد وباللبن واللحم المشوي يتناوله بجوارها.. وسرت بظهره قشعريرة باردة وهو يتخيل المشهد الذي لم يخطر بباله من قبل وقفزت إلى وجهه ابتسامات شتى.. بكل الألوان والأشكال.
كاد الشيخ سعفان يهوي بشرابة سوداء يمسكها بمقبض جلدي على وجه سطام. راعته هيئة الذهول الضاحك بمحياه. كيف يضحك؟ رماه بنظرات هائلة تفيض شزرا واحتقارا.. وشفقة. عاد يلتفت للقوم.. وللسيارات التي تتحرك ببطء شديد جدا.. وبالشمس اللاهبة التي بدا أنها جنت اليوم فانهالت على الجماجم المشرعة بوابل من حممها الملتهبة الحارقة. وفاحت بالمكان رائحة عرق قوية. لا أحد يشعر بالنفور فقد اعتادوها حتى أصبحت القاعدة لا الاستثناء. عبيرها يثير بقلوب الذاهلين المنتظرين إحساسا دائما بالراحة لأنها شيء يتوقعون وجوده ويألفون تأثيره. من أين يذهب وإلى أين يأتي؟ وهل من مكان يأوي إليه؟؟ ينتظر.. فقط ينتظر.
ويتحرك الصف بعد طول انتظار. تقترب المحطة ويقصر خط الدور الرهيب اللانهائي. يلتفت الشيخ سعفان وراءه فيذهل لمرأى الصف الجديد المتكون خلف الجيب. عبث في عبث. هو لا يفهم. كيلومترات كاملة من الحديد والآلات الظامئة تنتظر أن يعاد ملؤها مرة أخرى. وبداخلها أناس أيضا ينتظرون. بشر ينتظرون. بعيون ذاهلة خاوية لامبالية تلمح بها من حين لآخر بريق قلق وترقب ينتظرون.
مالت الشمس لجهة المغرب وخفت الحرارة قليلا. أحنى الشيخ سعفان رأسه على كتفه مفكراُ وهو يفترش التراب. لم يبالي بعباءته الثمينة التي تلوثت تماما. الهدف من رحلته يتبدد شيئا فشيئا مع أنغام الوجود الإجباري هنا بقلب الصحراء. يريد أن يقاتل فعلا من أجل هذا الهدف.. أم هو مجرد هدف ما.. من تلك الأشياء اللذيذة التي يختلقها عقل الإنسان بحثا عن المتاعب؟ لكن هل الكرامة موضع تساؤل؟ ليس الأمر لهوا فلمَ يشعر وكأنه هو.. الشيخ سعفان.. يريد القفز واللعب بكل شيء؟! مستحيل أن يفكر هكذا. يتألم؟ حقا ما أشقى ألم الفلاح الجريح لكن البداوة هي ما تجعل من الآلام وقودا للرجولة الصارمة. حدق بشيء برز من بين عجلات صهريج متوقف أمامه. ضب.. يتحرك بوقاحة أمام الناس.. يفتح فمه البشع ويلمح جوفه المتشقق المحمر. وفي السماء لا تزال طيور الشؤم السوداء تحلق بدوائر متصلة دون كلل أو ملل. ما الذي تبغيه.. لن نموت! قد تموت العربات المعدنية في النهاية لكننا لن نموت. تصرخ وصراخها مقبض. صرخات حادة رفيعة متقطعة وألم يمزق النفس ويثير الغثيان في أكثر القلوب تفاؤلا.
وسط الغمامة السوداء والرائحة البترولية المنفرة أخذت الشمس تأخذ طريقها للمستقر الأخير خلف خط الشفق. لم يزل بالفضاء بقية من نور عندما وصل الشيخ سعفان وربيبه سطام والجيب المحتضرة إلى نهاية خط الدور. تقدم عامل المحطة محيطا وجهه ورأسه بمنديل أحمر مزركش. وضع مقبض خرطوم الوقود وجذب الذراع وانتظر الجميع سماع صوت السائل الأسود الذي أشقاهم اليوم بطوله انتظاره. المفاجأة أن أحدا لم يسمع صوت بنزين أو حتى أي سائل. خشخشة غريبة تدل على شيء صلب يتدفق داخل الخزان. صرخ الشيخ سعفان بغتة:
- توقف.. توقف!!
وتوقف العامل ورماه بنظرة متسائلة غير ودودة.
- ما الذي تفعله؟ ما هذا الذي تزود الجيب به؟!
- تراب!
خيل للشيخ سعفان أنه لم يسمع جيدا، فصاح بحدة:
- ماذا قلت؟!!
- تراب.
وبإصرار عجيب تابع العامل:
- تراب.
حدق الشيخ سعفان بعيني الرجل ليتأكد أنه جاد. لم يعثر إلا على نفس النظرة الخاوية اللامبالية. كاد يجن. هتف بلهجة هي مزيج من الغضب الشديد والضراعة:
- وكيف تزود السيارة بالتراب بدل الوقود؟! أتسخر مني؟!
انتزع العامل الخرطوم وضغط ذراعه بحزم، ووسط ذهول الشيخ سعفان - وربما سطام - تدفق تراب ناعم دقيق من الفوهة المشرعة أمامهما.
أدار الشيخ سعفان رأسه دون فهم. لمح سطام لا يفعل شيئا إلا أن يقف كالصنم. وبجوار العامل وقف جندي ظهر فجأة كأنما انبثق من العدم. تأمل بمرارة لباسه العسكري اللامع وأسلحته وعتاده الحديث، والأهم.. بشرته المشربة بالحمرة. هز رأسه للمرة العاشرة وتمتم ونظره معلق بالأرض كالمنوم:
- تسير الجيب بالتراب!! أجل يمكن أن تسير! ولمَ لا تسير؟!
كان الظلام قد حل، وتلاشى تماما قرص الشمس المتآكل خلف الغمام الباهت، وهجعت الطيور السوداء لأعشاشها، وانطوى الضب بين أستار الليل يفتش عن طريدة اليوم الغافلة.
واقرأ أيضا:
الأغصان العارية / اهتزاز