مددت يدي حتى أوقفت هذا الرنين المتواصل للمنبه، تعبث به يدي هنا وهناك ولكن لا أجد ذلك المفتاح اللعين الذي يوقف صوته وذلك الإزعاج الذي يسببه. ولكن لماذا أرهق نفسي وأعصابي؟؟ قذفت به على الأرض ليسقط محطما، فتناثرت أجزاؤه يمنة ويسرة.. هنا وهناك.. وسكت رنينه الذي يحطم أعصابي.. والآن أصبح لا بد من أن أدخر جزءا من راتبي لأشتري به منبها آخر، فهذا هو المنبه الأول بعد الألف الذي أكسره...
عدت لأسحب الغطاء على رأسي ثانية، فما زال الوقت مبكرا للذهاب للعمل الآن. نظرت إلى ساعة الحائط، هنالك خمس عشرة دقيقة أمامي فلا ضير من النوم قليلا وسوف أستيقظ في تمام السابعة.. لا.. لا.. ليس من جديد.. هذه الحبال الزرقاء الباهتة تلتف حول عنقي ورأسي، حول ذراعي وسيقاني، تعتصرني، لا أستطيع التنفس، وعيناي لا تريان سوى هذه القاعة البيضاء.. وتلك الحبال تحاول جاهدة أن تنتزع مني روحي انتزاعا. أحاول تحريك يداي.. ولكنها ثابتة.. أحاول تمزيق هذه الحبال الزرقاء من حول عنقي بأسناني ولكن أسناني كلها مكسورة.. هذه الحبال تمتد وتمتد.. وأنا ثابت.. تطال أطفالي.. وأنا ثابت.. أمي.. أبي.. إخوتي.. وأنا ثابت.. تمتد وتمتد.
قفزت من سريري مفزوعا مضطربا أحاول أن أمسح عرقي عن جبيني وجفوني وكل أنحاء جسدي، وفي فورة اضطرابي سقطت عيناي على ساعة الحائط.. انتابتني حالة من الذعر الشديد! وأول صورة مرت بخيالي كانت صورة رجل سمين أصلع يفتح فمه ذا الرائحة الكريهة ويصرخ قائلا: "سأرفدك في المرة القادمة.. تأخرت ساعة كاملة يا أستاذ".
انتفضت من سريري وكدت أقع على وجهي.. بدلت ملابسي بسرعة وأنا أرتعد، نظرت إلى الساعة مرة أخرى.. لا.. لا.. هذا غير محتمل.. حملت حذائي في يدي وهرولت على السلالم.. ثم جلست في سيارتي بعد أن ارتديت حذائي ولم أعر انتباها لجاري العجوز وهو يستنكر كعادته كل صباح من الضجة التي يدعي أنني أسببها.
وأخيرا وصلت.. صعدت عيناي رويدا رويدا تتأمل طوابق هذا المبنى الضخم، لا بد أنه يمر على المكاتب الآن.. أسرعت إلى الطابق العاشر وأنا أركض على السلم، فالمصعد معطل كالمعتاد.. فتحت الباب وأنا أكاد لا أقوى على التنفس.. لم أُحِي زملائي الذين يبدو أنهم اعتادوا على مشاهدة نفس المشهد يتكرر كل صباح، ولكني تسمرت في مكاني.. آمنت أنني ميت لا محالة.. فقد كان في المكتب.
تقدم السمين الأصلع يصرخ في وجهي عابسا:
سأرفدك في المرة القادمة.. تأخرت ساعة كاملة يا أستاذ.
أعتذر.. أعتذر.. وأعدك أنها المرة الأ.. الأخيرة.. وسوف أ..
لا داعي.. وسوف أحول أمرك لصاحب السلطة، فلن أتحمل ذلك أكثر.. وتعلم أنك بهذا التسيب سوف تقضي على سمعة العمل.. وأنا بصفتي الـ..
انسابت موسيقى ناعمة في أذني.. لم أعد أسمع صوت هذا الرجل.. تحولت عيناي عن كرشه المتضخم إلى ركن منعزل في الشرفة المقابلة للمكتب.. حاولت أن أصرخ.. أن أطلب النجدة.. ولكن لم تترك لي هذه الحبال اللعينة الفرصة؛ حيث عاودت الالتفاف من حولي.. عاودت شل حركتي.. نظرت مستغربا إلى زملائي.. إلى ذاك الرجل السمين.. ولكن يبدو أن هذه الموسيقى دغدغت حواسهم جميعا فيما عداي أنا.. فكلهم غائبون.. وأنا حاضر.. أرى هذه الحبال تمتد لتلتف حول أقدام زميل لي.. ولكن لا يحاول التخلص منها.. وعلى شفتيه ابتسامة روتينية باردة.. وهنا تخلصت من تلك الدغدغة الناعمة للموسيقى وصرخت بهم جميعا:
احذروا.. افتحوا أعينكم.. هذه الحبال تريد قتلكم.. تريد فناءكم.. استيقظوا.. إن هذه ال..
مهلك.. مهلك.. حبال.. ماذا؟! هل عاودك الجنون؟.
أينعتني بالجنون وأنا من حاول مساعدته؟!! فاجأني هدوء الغرفة.. فلم تعد الغرفة بيضاء، وتوجه نظري إلى الشرفة المقابلة للمكتب ولكنها كانت مغلقة.. ولكن أين ذهبت الحبال الزرقاء؟!! هل تريد الإطاحة بي؟ هل تريد أن أكون مجنونا بنظر رفاقي؟!!
- لا.. هذا ليس بحال.. كل يوم على هذا المنوال.. اعقل يا رجل.. وإلا قمت فعلا بفصلك عن العمل.. هل هذا واضح؟ انسَ هذه التخاريف.
أطلق السمين كلماته في وجهي وخرج صافقا الباب خلفه وهو يتمتم بكلمات مبهمة، وعاد رأسي إلى موضعه وعيناي مركزة على زملائي المحدقين بي، عيونهم مليئة بالشفقة.. بالحزن.. بالذنب.. في عيونهم كلام كثير لا حصر له ولكن شفاههم مغلقة.
لقد رأيتها.. صدقوني! إن هذه الحبال موجودة.. كل يوم أراها.. زرقاء باهتة.. تحيط بها الغرف البيضاء.. إنها تطاردني كما تطاردكم.. إنني أراها.. أراها.
عزيزي، لا بد أن تقوم بفحص للنظر، فعيونك مرهقة.. لا بد أنها مرهقة.
ولكن عيناه كانتا تستميحانني عذرا. وفي ذلك اليوم لم أذهب إلى البيت مباشرة بعد العمل؛ بل اتجهت من فوري إلى عيادة العيون وجلست بتعب في قاعة الانتظار.. وجاء دوري ودخلت حجرة الطبيب.. تقدمني إلى لوحة ضخمة.. في بادئ الأمر لم أكن أرى ما كتب أو رسم عليها.. فوضع أمامي منظارا مكبرا وسألني:
ماذا ترى؟
في الحقيقة الرؤية باهتة.. مجرد أشكال متداخلة.
ربما ترى بهذه أفضل.. والآن؟
نعم.
إذن قل لي ما هذا؟
حبل أزرق!!
ماذا؟
آسف.. حبال زرقاء.. حبال كثيرة.. وغرف بيضاء.
آه.. أعتقد أنه لابد من تغيير العدسات.. هل ترى شيئا آخر بهذه؟
نعم.
إذن ماذا؟
قاعة بيضاء.. وحبال زرقاء ملتفة.
تتابعت العدسات الواحدة تلو الأخرى والصورة على ما هي عليه.. قاعة بيضاء وحبال زرقاء ملتفة.
عيناك سليمتان يا سيدي.
ولكنني أرى أشياء ليست موجودة!.
عيناك سليمتان.
إذن..
لا بد أن العلة نفسية.. لماذا لا تذهب إلى طبيب نفساني؟ ربما قد ينفعك.
في الإشارة الحمراء أخذ عقلي يدير الأمر في جميع الاتجاهات.. إذا كانت عيناي سليمتين إذن الداء نفسي كما قال الطبيب، لأذهب وأرى ماذا يقول الطبيب النفسي، فقد سئمت من هذه الحبال.. فهي تهددني دائما.. وترهقني.. ترهقني.
اسمك؟
يعرب.. لا.. محمد.. لحظة.. آه لا أذكر.
سنك؟
لا أذكر.
عملك؟
كاتب في.. لا.. فأنا محرر ال..
منذ متى وأنت ترى هذه الحبال؟
منذ بدأت أكسر المنبهات.
هل تريد أن تصيبني بالجنون؟!
هل تريد أنت؟.
من نصحك بالمجيء إلي؟
طبيب العيون.. قال إن عيني سليمتان.
ومن نصحك بالذهاب إليه؟
زميل لي في العمل.. قال إن عيوني مرهقة!.
اذهب يا بني.. أنت سليم.
ماذا؟؟ هل تريد أن تصيبنى بالجنون؟
هل تريد أنت؟
إذن ما العمل.. سئمت هذه الحبال.. فأنا أبدو كالأبله حين أقول بأنني أراها.. ما العمل؟ فأنا على يقين بأنني أراها.. تلتف كالثعابين حول رقابنا.. ولا أستطيع أن أكتفي بالسكوت.. وعندما أتكلم وأصرخ وأستغيث يقولون بأنني مجنون.. كما أنني دائما مهدد بفقد وظيفتي.
الحل بسيط..
عجل به أرجوك.
لا تقل إنك تراها.. تجاهلها.. تجاهلها.
ولكنها ستقتلني.. ستقتلنا!!!
هذا سيحدث لا محالة.. سواء قلت أم لم تقل.. فهي أقوى منا ومن تفرقنا.
هل تعني أن أسكت؟ أن أرها تلتف حول أهلي وأسكت؟ أراها تخنق طفلتي وأسكت؟ تشل أبنائي وأحفادي وأسكت؟
نعم.. سوف ترتاح.. صدقني.. ألا تريد أن ترتاح؟
نعم.. نعم.
إذن؟ ما قرارك؟
إذا كان في ذلك راحتي فسوف أفعل.. سأتجاهلها.. فقد بت منبوذا.. ولم أعد أطيق ذلك.. أشعر بأنني أصبحت وحيدا.
عين الصواب.
اتجهت إلى الباب وأنا سعيد.. أطير من الفرح.. فلن أرى تلك الحبال ثانية.. الحل بسيط أتجاهلها فلا أراها.. يا له من حل.. أين كان غائبا عني طوال تلك السنوات؟ فتحت الباب وهممت بالخروج عندما وصلني صوت الطبيب يقول:
بلغ سلامي إلى زميلك.. وهنئه بالنيابة عني على فوزه بالترقية الأخيرة.
لا حبال زرقاء بعد اليوم، لا قاعات بيضاء، أقفلت الباب بهدوء وفي أذني موسيقى ناعمة.. ولكن دون حبال زرقاء.. ومن خلال هذه الموسيقى الناعمة ارتسمت على شفتي ابتسامة روتينية باردة تذكرني بأحد ما.. ولكن لا يهم.. فلا حبال زرقاء بعد اليوم تؤرق فكري.
واقرأ أيضا:
أقاصيص.. / بحيرة الدمـاء