نعم يا فندم، أنا متفق مع حضرتك تماماً، ولكن أيهما أفضل: العمل أياً كان نوعه، أم السرقة مهما تكن أنواعها أو مبرراتها؟
إنني قانع بما قسمه الله لي، ولعله يكون ادخر لي خيراً من ذلك...
أحييك يا ابني على نظرتك العملية هذه للأمور... ربنا معك...
الزمان والمكان لا يهمان.. تتساقط الأيام.. يوما.. يوماً.. وتتابع، وتدور وندور معها وتفنينا ولا تفنى.. وتبلينا ولا تبلى.. وتبلى الأماكن، ولا يبقى منا ومنها سوى الرفات..
منذ زمن لا أدري عدد سنيه كنت طفلاً سني ست سنوات، قالوا لي سوف تذهب إلى المدرسة.. سوف تتعلم.. سوف تلبس البنطلون والقميص بدلاً من الجلباب ويناديك الناس يا أستاذ..
فرحت أمي بذلك.. لم تكن الدنيا لتسع فرحة أبي الجارفة.. لم يكن يصدق.. ابني سوف يدخل المدرسة.. والله زمان.. ابني سوف يدخل المدرسة.. سوف يتحقق له ما لم يكن ليتحقق لي وما لم يتحقق..
وفي المدرسة ندرس الحساب "1+1=2"؛ لو قلت يساوي 3 خطأ.. ودرست في القراءة "الحياة أمل"، وعلمني مدرس التاريخ "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس".. وقال لنا مدرس الجغرافيا "الأرض كروية".....
بلِّي الشربات يا حاجة.. ابننا نجح في الابتدائية. وتزغرد أمي، ويدق الطبل في بيتنا ستة أيام.. يوم بسنة من الدراسة اجتزتها بنجاح وتفوق.. تعلمت خلالها الكثير.. لا بد أن أعرف كل شيء.. لا بد أن أعرف التاريخ، والجغرافيا، والدين، والحساب، والعلوم.. لا بد.. إن غاب عني شيء من ذلك، فأنا لست بتلميذ مجد.. ولا بد أن أزيد من جديتي في الإعدادية.. فهي صعبة.. يجب أن أذاكر حتى أتفوق.. لا بد أن نكون كلنا متفوقين حتى نرفع رأس وطننا بين الأمم والأوطان.. هكذا قال لنا مدرس اللغة العربية "العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها .. والجهل يخفض بيوت العز والكرم" – لا أستطيع أن أصف مدى سعادة أبي، رغم عدم علمه بالقراءة والكتابة عندما قرأت عليه هذا البيت وشرحت له معناه..
ولا أنسى تلك الدروس الرائعة التي علمنا إياها مدرس التاريخ بصوته القوي الثائر وهو يتكلم عن عدالة التوزيع، وتكافؤ الفرص، ولا بد لكل شخص في المجتمع يؤدي ما عليه من واجبات تجاه مجتمعه أن ينال حقوقه كاملة، لا فرق بين هذا وذاك، سوى بجدهم وتفوقهم ونجاحهم..
ونجحت!
وبلت أمي الشربات، ودق الطبل 9 أيام.. يوم بسنة.. ونجح الولد الصغير.. ودخل الثانوية العامة.. سهرت أمي الليل.. تدعو: يا رب نجح ولدي.. وسار أبي في طرقات القرية: ابني في الثانوية العامة، ومن الثانوية للكلية إن شاء الله..
وتسهر أمي الليل.. أريد شاياً يا أمي.. حاضر يا نور عين أمك.. أشعر بالجوع.. عندي أكل كنت جهزته لأبيك عندما عاد من الغيط، وقال أتركه لك.. أريد كتاباً في الإحصاء، وكتاب الأحياء الخارجي، الميكانيكا صعبة، أشتري كتاباً خارجياً..
لم يكن أبي يبخل علي بشيء قط.. ما رد علي أبداً مرة بلا أو نعم، فقبل أن أنتهي من طلبي تكون يده في جيبه ويعطيني ما أريد..
لم تبل أمي الشربات هذه المرة، أشترى أبي صناديق البيبسي والكوكاكولا، ووزعها على جميع سكان القرية الذين تجمعوا في دارنا يهنئون ويباركون.. ودق الطبل ودق.. وتزغرد أمي زغرودة، وتبكي.. دموع الفرح ما أغزرها.. وتسهر أمي الليل تصلي: يا رب لك الشكر، ابني نجح ودخل الجامعة.
يمر أبي في طرقات القرية شامخاً بهامته الضخمة: ابني دخل الجامعة.. بيقولوا الشباب في الجامعة كله واعي ومثقف.. لا يكفون عن العمل.. يعرفون كل شيء.. لا يوجد شيء لا يعرفونه..
"هاي.. ري.. عامل إيه؟" لم أتخيل أن هذا الكلام كان موجهاً لي.. فإن ليس اسمي "ري"، ولا أعرف هذه الفتاة.. ربما تعرفني هي.
"ليه أنت منعزل وحدك، خليك مع الشلة.. داحنا شلة ظريفة.. هتحبها قوي، أول ما تندمج فيها..
هذا ميمي
هذه فيفي
كنت كالنبت الغريب اعتادت جذوره رمال الصحراء، واعتادت سيقانه لهيب الشمس الحارقة.. اعتاد أن يرى الماء في المواسم.. الآن نقلوا النبات إلى بيئة أخرى.. قال لنا مدرس العلوم.. لكل نبات بيئة يصلح فيها وينمو.. فلا تزرع نباتات المناطق الحارة في المناطق الباردة، مثلاً.. سوف تموت قطعاً.. ولكن فاتني شيء كنت أتمنى أن أسأل الأستاذ عنه: وماذا يحدث لو صار "راضي المنسي" يوماً ما "ري".. هل يموت؟؟
لم يبخل علي "أبو ري" قط بأي طلب طلبته منه.. وحرصت ألا أحمله ما لا يطيق، فأنا أعرف قدراته جيداً: فهو أبي ولا أستطيع أن أفصل جيناته من دمي _حتى وأنا فيما أنا فيه الآن... فهو لم يعد ذلك الشاب الذي لا يعرف الليل ولا النهار.. سواء عمل في الغيط، أو في الرفع أو الحمل.. لم يعد أبي بإمكانه أن يسهر طوال الليل لأجل أن يوفر لي ثمن العربة الوارفة التي تركبها جيجي.. ولكنه "أبي ولا أستطيع أن أفصل جيناته من دمي"..
ري.. سمعت آخر خبر، الامتحانات السنة دي حصل لها تخفيض عن السنة اللي فاتت.. الامتحان بـ 500 جنيه فقط.. إيه رأيك؟ .. هاتشتري كل الامتحانات؟ لأول مرة في حياتي أعرف أن الامتحانات تباع وتشترى...
وتدور الكرة الأرضية وندور على ظهرها.. ولا تجد أمي سوى الشربات لتبلها هذه المرة.. وزغردت زغرودة، مكبوتة، مجروحة مبحوحة.. وصلت أمي العِشاء.. يا رب لك الشكر والحمد، نجح ولدي في الجامعة.. وهمس أبي في الحضور.. ابني نجح في الجامعة.. وتذكرت، وتذكر.. وتذكرنا.. الشاعر حين قال .. "العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها .. والجهل يخفض بيوت العز والكرم"
- صباح الخير يا افندم.. اسمي راضي المنسي.. قرأت الإعلان الذي أصدرته الشركة عن طلب موظفين.. وأتعشم أن أكون من المقبولين.. وأنال شرف العمل لديكم.. لم أر وجهاً يرتفع ليجيبني صاحبه، فقط أحس بكلمات تنبعث من سقف الحلق وتخرج من الأنف بكل صعوبة.. اترك لنا عنوانك.. وسوف..
أقاطعه .. يا فندم
اتفضل
- يا فندم .. أنا سمعت.. اترك..
- يا فندم .. أنا قرأت .. اترك..
- يافندم .. يا فندم..
ودقت أمي بيدها الواهنة على صدرها الذي كاد يكف عن الحركة.. إيه اللي جرى للدنيا..
أطرد عن ذهني خاطراً يردد عليّ بيت الشعر الذي قاله لنا مدرس اللغة العربية: "هذا ما جناه علىّ أبي وما جنيت على أحد"!! ولكني أتفكر فيه.. لأول مرة أفهم معناه حقاً..
جيجي تعمل في شركة كبرى..
فيفي وميمي في أوروبا..
سوزي تعمل في إحدى الوزارات..
أما "ري" – فيعمل مقدم طلبات.. سامح الله أبي.. سامح الله أمي.. سامح الله جدي.. قال الرجل "من لم يغتني في عهدي، فلن يذوق الثراء أبداً.." ليتهم سمعوا كلامه..
وتدور الكرة الأرضية .. وأدرك السر في كونها مدورة .. حتى نتوزع على جنباتها.. وحتى أصير أنا في نصفها السفلي دائماً.. وجيجي وفيفي وميمي .. في النصف العلوي..
وأدرك كذلك السر في أنها تمر مر السحاب.. حتى نظل في القاع دائماً لا يصيبنا الدور في أن نعتلي الأدوار العلوية منها..
أدرك ولأول مرة في حياتي خطأ ما علمنيه الأستاذ من أن "1+1=2"، لقد صارت الآن تساوي أي شيء عدا هذا الرقم..
وأمر في طرقات القرية..
أحمل فوق رأسي قفص فراخي
ينادي عليّ الناس:
يا أستاذ أدينا فرخة،
يا أستاذ أدينا فرختين
يا فرخة أدينا أستاذين
واقرأ أيضا:
كل القلوب البيضاء / زوجة تواعد رجلاً!!