يعتقد بعض الناس بـأنه لا يمكن للعقاقير الدوائية المادية المحسوسة أنْ تعالج المعاناة النفسية غير المحسوسة. ولعل أفضل ردٍّ على هذا الاعتقاد ما ينبهنا له الزميل السعودي د. طارق الحبيب هو ذكر حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "التلبينةُ مجمَّـةٌ لفؤادِ المريض تذهب ببعض الحزن". وقد قال ابن القيم في شرحه: "التلبين هو حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته، وهي تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة، فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية"، انتهى كلام ابن القيم.، والأدوية مثل الأغذية، فمنها ما يذهب الحزن والغم دون أنْ يكون فيها محظور من الناحية الشرعية انتهى كلام طارق الحبيب (طارق الحبيب، 2001).
ونتيجةً للتقدمِ العلميِّ الغربيِّ الكبير الذي حدثَ، والأبحاث الضخمة التي تمت في مجال الطب النفسي -كما في المجالات الأخرى- فقد ظهر أن الأمراض النفسية لها ما تُمكن تسميتهُ تغيرات كيمائية وربما تركيبية تحدث في الدماغ على غير ما كان سائدًا في منتصفِ القرن الحالي من أنها مرتبطة بذكريات الطفولة ولا يمكن معالجتها إلا بالتحليل النفسي، وبناءً على نتائج ما تم من أبحاث وتوظيف التقنيات الحديثة في الطب مثل الرنين المغناطيسي وتخطيط الدماغ فقد ثبت وجود اضطراب كيميائي في بعض مناطق المخ المسئولة عن المزاج والمشاعر والسلوك والذاكرة وأصبح لكل مرض علاجه الدوائي بالإضافة لعلاجه النفسي السلوكي والتحليل النفسي في بعض الأحيان.
ولكيْ أوَضِّـحِ الأمْرَ أكثر لغيْرِ الأطباء؛ فإنَّ المخَّ البشَرِيَّ يتكونُ من آلافِ الملايينِ من الخلايا العصبيةِ وهناكَ مراكِـزُ في المخِّ لكافةِ الوظائِفِ النفسيةِ والبيولوجيةِ للإنسان فهناك مركزُ الحركة ومراكزُ للتحكم في ضغط الدم ودقَّـاتِ القلبِ والتنفس وكذلك هناك مراكزُ للذاكرَةِ والسلوكِ والمِزاجِ والوِجْـدان وَيرتبطُ المخ بالحبل الشوكي الذي يقعُ داخلَ العمودِ الفَقَـرِيِّ وهو يحتوي على عدد ضخمٍ من الخلايا العصبية وبذلك يتمكنُ من نقلِ كل أنواعِ المعلوماتِ منْ وإلى المخ من خلال الإشاراتِ العصبية، وتتصل الخلايا العصبية التي يتكون منها الجهاز العصبي بعضها ببعضٍ بواسطةِ مشابكَ "نقط الاشتباكِ العصبي" حيثُ يقَعُ كلُّ مشبكٍ بينَ الخليَّـةِ المُرْسِلَـةِ والخلية المستقبِـلَـةِ للإشارَةِ العصبية؛ وهذه المشابكُ أو المسافاتِ الرقيقةِ بالرغمِ من أنها تفصل ما بينَ الخليتينِ إلا أنها في الواقعِ تربطُ ما بينهما كيميائيًـا حيثُ أنَّ الرسائلَ "الإشاراتِ العصبية" تنتقل خلال المشبك بينَ الخليَّـتيْـنِ بواسِطَـةِ مواد كيميائية تُسَمَّى الناقلاتِ العصبية ومن أمثلتها السيروتونين، الدوبامين، الأدرينالين؛ النور أدرينالين والأستيل كولين.. إلـخ... ولتوضيح أكثر يمكنكم مطالعة مقال: أسباب الأمراض النفسية
وَزيادة أو نقص هذه الناقلات العصبية في المخ يؤدي إلى اضطراب الوظائفِ النفسية للإنسان في حين أنَّ إعادَةَ ضبط تركيزها وإيجاد التوازنِ المناسب فيما بينها يعيد الإنسان إلى اتزانه في سلوكه وسعادته في حياته! وعن طارق الحبيب نأخذ قوله : وقد أجاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على سؤالٍ عن حكم استعمال الأدوية لعلاج المرض النفسي، فقال: (المشروع لكل من لديه علم بشيء من الأدوية الشرعية أو المباحة التي يعتقد أن الله ينفع بها المريض أنْ يفعل ذلك سواءً سُمى ذلك طباً نفسياً، أو شرعياً، أو دواءاً عادياً أو غير ذلك من الأسماء).
إذن فالمطلوب أنْ يتحرى الطبيب المعالج ما يراه نافعاً في علاج المرضى الذين بين يديه بما ليس فيه محظور شرعاً سواءً كان بالقراءة أو بمأكول مباح أو بمشروب مباح أو أشياء أخرى لا محظور فيها، قد جُرب أنه تزيل ما أصاب المريض من الخلل في عقله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له شـفاء علمه مـن علمه وجهله من جهلـه" ولقـوله صلى الله صلى الله عليه وسـلم "عـباد الله تـداووا ولا تـداووا بحرام" . صدق رسول الله.
وأعود هنا إلى مقالة ابن عمران في المالينكوليا والتي قام يتحقيقها أستاذنا التونسي د. سليم عمار (سليم عمار، 2002) يقول ابن عمران وهو يحدثنا عن طرق العلاج وقد كتبه ابن عمران بغاية الإتقان وتعرض فيها إلى الأدوية والعلاجات الكلية والجزئية لكي أوضحَ كيف كان يفكر علماءُ المسلمين. فقد تعرض ابن عمران إلى مختلف الوسائل العلاجية التي يمكن ترتيبها كما يلي حسب التبويب الحديث:
1- الوسائل التي ترتكز على النفس.
2- الوسائل التي ترتكز على البيئة والمحيط
3- وسائل العلاج بالحمية والتغذية.
4- العلاج بالطرق الفيزيائية.
5- العلاج بالأدوية والعقاقير.
ا- العلاج بالوسائل النفسية:
هنا يركز ابن عمران اهتمامه على ضرورة الاعتناء بالمريض حتى تزول ظنونه، وذلك بالكلمات الجميلة الأنيقة وبالحيل المنطقية والمواساة والموسيقى والتنزه في الهواء الطلق والغابات والبساتين الزاهرة الخ. فيحرص على التنقل من المكان الذي وقعت فيه الإصابة فينصح بالأجواء التي تميل إلى الحرارة وتقل رطوبتها وبالابتعاد عن الأماكن المتعفنة بل ينتبه حتى إلى وجهة المنازل بالنسبة للأرياح.
2-العلاج بالتغذية والحمية:
هنا يؤكد ابن عمران الاعتناء بالصحة العامة وذلك بتنظيم الأسباب الاضطرارية الستة المذكورة أعلاه وهي: العمل والحركة السكون، والنوم واليقظة، الطعام والشراب، الهواء المتنسم والمستنشق، الاستفراغ والامتناع، وأخيرا الأحداث النفسية ،كما أنه يشير إلي العديد من الأغذية من حيث الكم والكيف لتكون دائما لينة نقية صالحة.
3-العلاج بالوسائل الفيزيائية:
يقول بن عمران في كل يوم الاستنقاع في الماء الحار العذب، والماء البارد في صميم الصيف والدهان بعد التنشيف بالمناديل واستخدام الأدهنةِ الكثيرة الرطوبة مثل، دهن الكتان وزيت اللوز ودهن السوسن ودهن الخرذل، والتي تستعمل إما لدلك الرأس أو لدلك الجسد كله.
4-العلاج بالأدوية والعقاقير:
يذكر هنا التفاصيل اللازمة لإعدادها والكمية المناسبة لكل عشب من الأعشاب فطريقة الاستعمال وقت تناولها ويقسمها إلي أدوية صالحة للعلاج الكلي وأدوية صالحة للعلاج الجزئي (الإسهال مثلا) ولقد ذكر إجمالا الدواء الذي يصلح لكل صنف من أصناف المالينخوليا رتبها حسب نوعيتها إلى بنادق وجوارش، وسفوف وايارج ومفاتل وملينات وادهان وغيرها.
ا- البنادق: هي أدوية تقدم في شكل أقراص معطرة مختلفة العطور تتركب أساسا من الهيليلج الأسود الهـندي والأفتيمون والقمونيا ودهن اللوز.
2- الجوارش: وهي أدوية تقدم في شكل معجون غلال مع عدة عقاقير صالحة للإسهال.
3- الأيارج: وهي أنواع من الأشربة.
4- البسامح: وهي أدوية مسهلة تستعمل عن طريق الشرج.
5- ثم يرجع ابن عمران إلي الملينات التي يصفها حسب تأثيرها المنشط أو المهدئ.
6- وأخيرا إلى الأدوية المستخرجة من الأفيون وغلف الخشخاش، والتي يشير بها في الحالات الخطرة كالشرسام، والمعروف إن هذه الأدوية كانت تستعمل إلي عهد قريب في المالينخوليا.
وفي الختام يقول ابن عمران: "فإن الحذق بهذه الصناعة أعنى صناعة تركيب الأدوية عظيم المعنى في الطب". فإذا كان الحديث النبويّ الشريفُ ودراسات أطبائنا المسلمين القدامى تتكلمُ عن مداواةٍ بالمحسوس لغير المحسوس وكانت دراساتٌ علمية حديثةٌ بعدد شعر الرأس أجراها مسلمون وغيرُ مسلمين قد أثبتت ذلك فهل هناك مجالٌ بعدُ للسؤال؟
بل إن بإمكاننا اليوم الذهاب أبعد من ذلك حيث أصبحت الآثار الطيبة التي تنتج عن العلاج النفسي تُفَسَّر بتأثيراتها الكيميائية على الجهاز العصبي، ومعنى ذلك أن الكلمة الطيبة تحدث أثرا كيميائيا في من يسمعها يختلف عن أثر الكلمة غير الطيبة، أي انتصار ذلك الذي حققته العقاقير المادية في المرض النفسي حتى أصبح أهل العلاج النفسي يحاولون تفسير تأثيراته بأنها أيضًا تأثيرات تعمل من خلال البيئة الكيميائية للمخ؟
المراجع:
1- د. طارق الحبيب (2001): مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي ... عن موقع bafree.net بتاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر) 2001
2- د. سليم عمار (2003) : حول مقالة إسحاق بن عمران في المالينخولي عن موقع إسلامست.نت بتاريخ 16 (ديسمبر) 2002
واقرأ أيضا
العلاج النفسي مجرد كلام ×× / هل يصح أن يتزوج الطبيب النفسي من مريضته؟؟