وقفة مع النفس قبل التوجه لغزة
ليسأل كل منا نفسه: لماذا ارغب بالذهاب؟ هل لتبرئة نفسي من التقصير تجاههم أو للشعور بأنني لست عاجزا أو لأنني (أشفق) عليهم لأنهم منكوبين أو لأنني محبط وأريد التخلص من الإحباط...
من الطبيعي أن نشعر ببعض هذه المشاعر ولكن من (الأفضل) أن نجلس مع أنفسنا بأمانة تامة قبل التوجه ليس لغزة فقط ولكن قبل التعامل مع مرضى غزة بالقاهرة لنطرد مشاعر الإحباط والعجز والهزيمة بل والإشفاق من داخلنا.. فهم ليسوا منكوبين ومن يرغب في فعل الخير مع المنكوبين فليتوجه للعشوائيات بمصر، ومن ينشد زيارة المرضى فجميعنا لدينا أقارب مرضى بإمكاننا كسب ثواب زيارة المريض بزيارتهم..
أما أهلنا في غزة والمصابون الذين يعالجون لدينا فيجب أن نتعامل معهم (باحترام) وإعجاب بصمودهم وهذا (حقهم) وليس تفضلا منا عليهم.. لابد أن نصحح أفكارنا لنتمكن من إدارة مشاعرنا ثم تصرفاتنا معهم.
وعندما نلتقي بأحدهم لا نقل أننا نريد المساعدة بل (نؤكد) أننا ننقل لهم احترام وتحيات كل المصريين وأننا نرغب بالاطمئنان عليهم ونضع أنفسنا تحت خدمتهم وأننا سنسعد بتقديم أية احتياجات يرغبونها لأن هذا حقهم علينا كأخوة ونستأذن منهم ونتأكد أن ميعاد الزيارة مناسب لهم حتى لا يشعروا بأننا نقتحمهم ولا نحترم خصوصياتهم كما صرح لي الكثيرون من المرضى الفلسطينيين بمصر.
مع ضرورة طرد المبالغات سواء في إظهار الاهتمام الزائد أو إبداء التعاطف الزائد سواء بالكلمات أو بملامح الوجه فالصدق -وعن تجربة شخصية- هو المفتاح (الوحيد) للتواصل الإيجابي معهم حتى نكون عونا لهم وليس أعباءً جديدة تفرض عليهم ويكفيهم ما لديهم مع ملاحظة أن لديهم شموخا وحياء كبيران يمنعهم من إظهار ضيقهم بالتكلف أو بالمبالغات. لا تقل لمريض أنت أحسن من غيرك فهذا يشعره بالضيق وبإمكانه الرد لو كنت مكاني لرفضت ذلك.
ولابد من تذكر أن من حقهم رفض الكلام وأن الإلحاح يضايقهم ومن السذاجة إخبارهم بأننا نعرف معاناتهم لأننا لم نجربها أو الحديث عن أننا نحسدهم لأنهم أبطال أو أنهم الأفضل لذا فالابتلاءات تحاصرهم منذ 60عاما والأفضل أن نخبرهم -بصدق- أننا نحترم ألمهم وغضبهم أيضا ونتمنى أن يتمكنوا من اجتيازه سريعا حتى لا يضيفوا إلى أنفسهم معاناة جديدة ويكفي ما يعانونه بالفعل.
وأننا نثق بأنهم سينتصرون قريبا بمشيئة الرحمن وأن الرحمن سيعوضهم خيرا هم وكل أحبائهم عن معاناتهم في الدنيا قبل الآخرة ولا نركز على الآخرة فقط وكأننا نؤكد لهم على حرمانهم المتواصل من الاستمتاع بالدنيا.
ولابد من طرد أي تفكير في الحديث عن تبرئة النفس أو شعبنا أو تبرير تقاعسنا جميعا عن نجدتهم والسماح لهم بالتنفيس عن غضبهم وأتذكر شابا فلسطيني صرخ في وجهي وهو يقول أننا ندعو على العرب جميعا أن يقتلعهم تسونامي فقلت له -بصدق- هذا حقك وتركت له الاسترسال في الحديث الغاضب وفي نهاية كلامه أكد بلطف -حقيقي- أنه يدرك أن الشعوب العربية كلها تقف معهم بقلوبها بل وأضاف أنتم الذين تعانون من الاحتلال الحقيقي وقال الله يهون عليكم.
ولابد أن نثق نحن أولا بحتمية النصر بمشيئة الرحمن بالطبع وبأن ألم ومعاناة أهلنا في فلسطين ضروري لاستعادة الأرض وأن ترك المقاومة سيضاعف من معاناتهم وهذا لا يتناقض بالطبع مع مشاركتهم الإحساس بالمعاناة والتعاطف معهم فلابد أن (نعي) حتمية الخسائر حتى لا نشعر بارتياع عندما نرى الخراب أو نستمع للقصص المؤلمة أو نشاهد مرضى في حالة سيئة للغاية.
وأوصي هنا بالاعتدال في الوقفة أو الجلسة وإرخاء ملامح الوجه وإرخاء الكتفين وتثبيت القدمين على الأرض والتنفس بهدوء للتحكم في الانفعالات بسرعة حتى لا نصدر إليهم الهلع بدلا من طمأنتهم أو تدعيمهم نفسيا وهو ما حدث مع الأسف ورأيته بعيني من بعض المختصين.
مع ضرورة إخبارهم بأن هذه المعاناة مؤقتة بمشيئة الرحمن وتذكيرهم بانتصارهم على إسرائيل وثباتهم الذي نال احترام العالم أجمع أي التركيز –دون مبالغة –على الجوانب الإيجابية مع عدم مصادرة بالطبع حقوقهم في الحديث عن معاناتهم وهنا يجب الاستماع بود حقيقي وصبر وعدم تعجل وعدم التعجل بالرد فكثيرا ما يريدون الفضفضة لمن (يحترم) مشاعرهم ولا يتعامل معهم بإشفاق.
ولابد من طرد (التبرع) بذكر مآسي شخصية حدثت لنا أو لمن نعرف للتهوين عليهم فهذا يشعرهم أننا لا نحس بهم مع ضرورة الامتناع عن الخطب والمحاضرات سواء الدينية أو الوطنية فهم ليسوا بحاجة إلى دروس منا.
مع ضرورة احترام خوفهم (المشروع) من تكرار ما حدث ولا ننكره ولا ندعي بأننا سنكون معهم أو شابه ذلك ونسمح لهم بإخراج كل ما بداخلهم.
مع إفساح المجال لهم ليتحدثوا عن أحبائهم سواء الراحلين أو الأحياء فقد لاحظت أن هذا يسعدهم كثيرا ويوطد العلاقات الإنسانية بيننا وبينهم.
وإذا تكلموا بصورة سلبية للغاية فلا نصادر حقوقهم في التعبير بصدق عنا يجول بداخلهم ولا نحاول إسكاتهم لحماية (أنفسنا) من رؤية ألمهم بصورته المفجعة بل (نتطهر) بمنحهم كل الفرص للتعبير عن أوجاعهم ونتعامل معهم بمنطق: أوافقك ولكن أي أن نحترم مشاعرهم ونخبرهم بأننا لو كنا مكانهم لفكرنا مثلهم وشعرنا مثلهم وسيعطيهم ذلك مجالا أوسع للإفصاح عن المزيد.
وعلينا ترك المجال كاملا لهم حتى ينتهوا من كل ما يؤلمهم ثم نؤكد على احترامنا -الصادق- لمعاناتهم ثم نخبرهم بود حقيقي أننا نود ألا يطيلوا التوقف عند ما يضايقهم وكفاهم ما نالوه من أذى ومعاناة وأننا نتمنى أن يقرروا تنمية ما لديهم والفرح بنصرهم وبتكاتفهم الإنساني الرائع ليعوضوا أنفسهم عن الأذى البالغ الذي تعرضوا لهم.
وبالنسبة لأقارب الشهداء فلنسمعهم بوعي ونؤكد لهم أنهم سيظلون معهم دائما ولن ينسوهم وأننا جميعا في سفر، والشهيد سافر أولا ونؤكد لهم أن من حقهم الحزن وأننا فقط نتمنى ألا يسترسلوا فيه حتى يحموا أنفسهم صحيا ونفسيا وحتى يطمئن عليهم الراحلون.
مع ضرورة ألا نتعجل في إنهاء الزيارة، ليس كم من نتحدث إليهم دون جدوى حقيقية فالأهم هو التأكد من تحسن نفسية ما يمكن وهم سيصدون الراحة للغير.
** اضحك مع الأطفال ولا تضحك عليهم وتكلم معهم عن هواياتهم ألعابهم أصحابهم وعن أمنياتهم في العمل في المستقبل وقد جربت ذلك شخصيا وأثمر نتائج رائعة.
اقرأ أيضاً:
الدعم النفسي للأطفال في ظروف الحرب/ التقرير العربي النفسي الأول عن غزة/ دورة دار الحكمة.. والجوانب النفسية للعدوان/ ما بعد الحرب.. ماذا يحصل وكيف نفعل؟!/ التعامل مع المتضررين من الراشدين والمراهقين2