كل من يعتنق دين الإسلام يسمى مسلمًا وبالطبع لا يحق لأي شخص أن يتهم من يدعي الإسلام بأنه ليس مسلمًا (.....وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً .(النساء : 94 )
ولكن لا نستطيع أن نسمي كل من اعتنق الإسلام مؤمنًا و لا كل مؤمن متقي( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...ٌ (الحجرات : 14 )
ولكي نعلم أن هذا الشخص مسلم أو غير مسلم يكفي أن يتشهد بالشهادتين ولكن كيف نتعرف علي المتقين؟؟
كم ادعى الكثير من الناس في العصور المختلفة الزهد والتقوى وهم بعيدون كل البعد عنهما ولو تكلمت التقوى لتبرّأت منهم ولكن صدّقهم البسطاء ومهّدوا لهم الطريق، وبهذا ضاعت الكثير من الشروط (والمصاديق) حتى لو رأوا منهم فعلاً متقين لأنكروا ذلك عليهم ورفضوهم.
إذًا كيف نستطيع أن نصل إليهم وما هي مميزاتهم والأعمال التي يفعلونها؟؟
ربما يكون أحسن طريق للتعرف عليهم هو خطبة المتقين للإمام علي كرم الله وجهه حيث يذكر بالتفصيل مميزات المتقين. والمهم في ذلك أنه لا يذكر في هذه الخطبة أنّ المتقين هم ناس قسموا أوقاتهم إلى وقتين وقت للدنيا يتلذذون بها كيف شاءوا ووقت للآخرة يعتكفون للعبادة.
بل ما يذكره الإمام هي مجموعة من الصفات والمميزات التي يتميز بها المتقي عن الآخرين وهي صفات دائمًا وفي جميع الحالات تكون معه لا تفارقه ولذلك نستطيع أن نعبر عنها بسيكولوجية المتقين لأنها توضح نفسياتهم وصفاتهم ومميزاتهم. وإذا تمعنا في ما يذكره الإمام وفي ما ذكره علماء النفس عن الشخصية السوية أو الشخصية المتعالية أو المتكاملة نرى أنها وخصوصًا في الأنحاء الفردية تشبه كثيرًا ما قاله الإمام عن المتقين.
وبعد هذه المقدمة سوف ندخل في شرح الخطبة و بيان هذه المميزات.
قال الإمام علي كرم الله وجهه في خطبة المتقين:
"إنّ المتقين في الدنيا هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع، خضعوا لله بالطاعة، غاضين أبصارهم عما حرم الله جل وعز واقفين أسماعهم على العلم..."
سوف أشرح في التالي المميزات التي ذكرها الإمام بالتفصيل:
1- أول ميزة للمتقين هي أنهم أهل الفضائل.
ماذا تعني الفضائل أو الفضيلة؟ جاء في المنجد في اللغة العربية أنّ الفضائل وهي جمع فضيلة يعني الدرجة الرفيعة في الفضل أو المزية وهي خلاف الرذيلة والنقيصة.
وسواء اعتقدنا بالحسن والقبح العقلي (أي أن العقل يستحسن بعض الأمور فهي محاسن أو فضائل ويقبِّح بعض الأمور فهي رذائل أو قبائح) أم لا فالمتقي لا يعمل أي عمل قبيح أو عمل رذيل بل بالعكس هو متمسك بالأعمال الفاضلة والمستحسنة. فعندما يقال هذا الشخص أهل لهذا العمل يعني ملتزم به لا يتخلى عنه.
إذًا المتقي لا يجرح الآخرين ولا يسخر منهم و لا يستهزيء بهم ولا يتورط في الأعمال القبيحة ولا يتجاوز حدوده التي حدّها له الدين والفضيلة. بل بالعكس هو إنسان يستطاع به التعرف على كل عمل مطلوب و جميل.
النقطة المهمة في هذه الميزة هي أنها ميزة تخص الشئون الاجتماعية للشخص فالفضائل تظهر في التعامل مع الناس وأول ميزة ذكرها الإمام هي ميزة تخص الحياة الاجتماعية للإنسان فلم يقل الإمام قبل كل شيء أنّه يقوم الليل ويصوم النهار.
قيام الليل وصوم النهار لهما قيمتهما الخاصة ولكن ماذا تفيد لو لم تحل أعمال الإنسان بالفضائل؟؟ ولا نستطيع القول بأنّ من يقوم الليل و يصوم النهار هو دون شك من أهل الفضائل فليسوا فهناك من يعملون هذه الأعمال وهم متصفون بالرذائل (للأسف الشديد)
2- منطقهم الصواب:
المنطق يشمل الكلام والنطق وكذلك الفكر والفكر المنطقي يعني الفكر الذي يتبع الأصول المنطقية ويتخلى عن الأفكار غير الصحيحة.
وهذه الميزة تشمل المعنيين فلكي يكون كلام الإنسان متبعا للأصول الصحيحة و متخليا عن الخطأ يجب أن ينتج عن الصواب الفكري.
و قد توصل علماء النفس (المعرفيين) إلى أنّ أساس الأمراض النفسية والمشاكل الاجتماعية هي الأفكار الخاطئة التي تكون في أساس تفكير الشخص. وكثيرًا ما نرى هذا الأمر بين الناس فترى أختين لم يحادثا بعضهما منذ شهر وعندما نسأل عن السبب تقول الواحدة منهن "هي لازم تفعل كذا" والأخرى "هي تقصد من قولها ذلك فلان و..."
من أين أتى هذا الواجب ومن أين تعرفت تلك الأخت على مقاصد ونيات الأخرى؟؟ هذه هي نماذج من أخطاء الفكر (ربما تطرقنا إلى أخطاء الفكر في مقالة أخرى).
و لكن المتقين مبرأون من هذه الأخطاء و يتبعون التفكير السوي في حياتهم. أليست هذه الميزة أهم ميزة في تمييز الإنسان السوي من المريض نفسيًا؟
3- ملبسهم الاقتصاد:
الاقتصاد على عكس ما يظنه غالبية الناس لا يعني الزهد و عدم صرف الأموال في الأمور الدنيوية وتخصيصها فقط للأمور المعنوية والعيش في النكد والصعوبة لأننا متقين.
بل الاقتصاد يعني الاعتدال. يعني الابتعاد عن الإفراط والتفريط (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً (الإسراء : 29 )
و الاقتصاد في المعيشة هو ما يسمى بحسن تقدير المعيشة حسب ما جاء في أحاديث أخرى. فعن الإمام الصادق (ع) قال: "لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: التفقه في الدين وحسن تقدير المعيشة والصبر على الرزايا"
إذًا ملبسهم الاقتصاد أي أنهم يصرفون ويدخرون ويبذلون في سبيل الله دون أن يسرفوا أو يبخلوا. فالإسلام لا يرضى للعبد أن يكون مغبرًا أشعث لأنه مسلم أو متبختر ومتزين بلباس السلاطين خصوصًا وهو تحت ضغط القروض فهذا منتهى الجنون.
4- مشيهم التواضع:
المشي يشمل المشي على الأقدام ومطلق المشي في الحياة أي جميع أعمال وأفكار الإنسان. فالإنسان المتواضع لا يسعى كل جهده لكي تكون سيارته أو بيته أو ملابسه أفضل من الجميع فقط لكي يفتخر ويعلو عليهم.
بالطبع الإسلام لا يرفض البيت الواسع أو العيش الهنيء، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد مرفوعًا وصححه ابن حبان والحاكم: من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء، وفي رواية لابن حبان: المركب الهنيء والمسكن الواسع.
ولكن الأمر الذي لا يرضاه الإسلام هو السعي وراء الحصول على هذه الأمور لكي يستعلي الإنسان على الآخرين ويفتخر عليهم "إنني كذا وكذا وأنتم كذا وكذا" (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا) "القصص: 83"
والعلو لا يعني التقدم والتحضر ولكن يعني الميل إلى الاستعلاء على الآخرين لتحقيرهم أو استثمارهم وهذا لا يشمل فقط المسكن والملبس و... بل وحتى إذا هدف العالم إلى اختراع أدوات وآلات لكي يستثمر بها الآخرين بمعنى أنه طلب العلو فطلب العلو يشمل العلم وحتى الفقه وجميع حركات الإنسان وسكناته.
إذًا الإنسان المتقي في مسيرة حياته وفي جميع تصرفاته وميوله لا يميل إلى الاستعلاء على الآخرين وتذليلهم بل وإن كان مؤمنًا لا يظن أن الآخرين هم أدنى منزلة منه عند الله و بالعكس دائمًا يعيش بين خوف ورجاء ولا يستهين بأي إنسان سواء كان فقيرًا أو غنيًا أو جاهلاً أو عالمًا...
5- خضعوا لله بالطاعة:
المتقون مطيعون لله لا يخالفونه في صغيرة أو كبيرة وهذه الطاعة أدت إلى خضوعهم أمام الله. والخضوع يعني تواضع الشخص وسكن فهو خاضع .فهم تيقنوا من عظمة الخالق فصغر ما دونه في أعينهم فأصبحوا خاشعين خاضعين له.
6- غاضين أبصارهم عمّا حرم الله:
لا ينظرون إلى الحرام. و يبدو أن هذه الميزة لها أهمية خاصة حيث ذكرها الإمام بمفردها على الرغم من أنه قال قبل ذلك أنهم مطيعين لله و الطاعة لله تشمل الغض عن المحارم. و لكن يبدو أنه أمر خاص وأمر صعب لا يستطيع أن يلتزم به إلا القليلون ففي الوقت الذي تظهر أمام أعين المتقين أنواع المحرمات غض نظرهم عنها يحتاج إلى إيمان قوي أو بالأحرى يحتاج إلى التقوى الحقيقية.
7- واقفين أسماعهم على العلم:
ربما يقصد الإمام من هذه الميزة أنهم ألزموا أسماعهم أن يلتزموا دائمًا بطلب العلم بدل الاستماع إلى اللهو واللغو والباطل وإضاعة الوقت بلا طائل.
أو ربما يقصد الإمام بهذا القول أنهم لا يعتقدون بكل ما يسمعون إلاّ أن يحصلوا العلم على أنه صحيح أو أن يتيقنوا من صحته فهم لا ينعقون مع كل ناعق ولا يميلون مع كل ريح.
وإن شاء الله نكمل شرح الخطبة في المقالات القادمة.
ويتبع >>>>: سيكولوجية المتقين (2)
اقرأ ايضا:
لماذا الرجال أكثر عرضة للشذوذ الجنسي من النساء؟/ كيف تجتنب النساء إيذاءات المنحرفين