لم أجد مقولة عليها اتفاقا مثل هذه المقولة التي أعنون بها مقالي الأول في سلسلة "من أجل وعي نفسي" وتقال هذه العبارة سواء كان صاحب الشأن نفسه هو الذي يطلب الذهاب أو أن يعرض أحدهم على الآخر الأمر مع تغيير ضمير المخاطب ليسبح عايز توديني لطبيب نفسي.. ليه... مجنون؟!!
والأعجب أن هذه الثقافة السائدة... لا تستثني أحدا من قطاعات الناس فالفقير يقولها والغني والجاهل والمتعلم والصغير والكبير... نعم الصغير الذي ربما لم يتجاوز عمره الثانية عشر وتشعر أمه أنه بحاجة إلى المساعدة لعدم تركيزه في المذاكرة مثلا نجده يقول نفس العبارة إذا طلبت منه أمه أن تعرضه على طبيب نفسي للمساعدة وكأن الأطفال يولدون فيشربون مع اللبن أن من يذهب للطبيب النفسي مجنون!!!؟!!!
ولا ينافس هذه المقولة في انتشارها وذيوعها إلا مقولة أن الطبيب النفسي يتأثر بمرضاه فيكون في أغلب الأحيان إن لم يكن في كلها "لاسع".. وهو أيضا تعبير شعبي عن الجنون.. ليصبح الموقف مع جمع العبارتين هو أن من يذهب للجنون.. بالطبع هو مجنون.... فهل حقا أنه لا يذهب للطبيب النفسي إلا المجانين؟! والذين يتسببون في جنونه هو الآخر؟!!
*إن الطب النفسي مثلما يظهر من اسمه هو فرع الطب الذي يتعامل مع النفس البشرية بكل أبعادها وأعماقها ومشاكلها وأزماتها ... وبديهي أن ما تتعرض له النفس البشرية ويحتاج إلى المساعدة والعلاج ليس هو الجنون فقط... فالجنون رغم ارتباطه في أذهان الناس بالطب النفسي لا يمثل إلا عشرة في المائة فقط ممن يتعامل معه هذا الفرع من الطب البشري...
ونكون بوصفنا للطب النفسي بأنه الفرع الذي يتعامل مع الجنون والمجانين فقط كمن وصف طبيب النساء والتوليد بأنه الطبيب الذي يولد النساء فقط ونغفل باقي مشاكل وأمراض النساء والتوليد والتي ربما لا تمثل الولادة أيضا فيها إلا جزءا بسيطا من الفرع أو نصف طبيب الأنف والأذن والحنجرة بأنه طبيب اللوز مثلا وهكذا في فروع الطب المختلفة...
0فالحقيقة أن الطب النفسي يتعامل في الأساس مع الأمراض والمشاكل النفسية التي لا يمكن لبشر في حياته إلا ويتعرض لأحدها في مرحلة من حياته لأنه يتفاعل مع تفاعلات النفس البشرية في مواقفها المختلفة عندما تفقد القدرة على التكيف فتتجاوز الحد ليصبح الأمر مرضا يحتاج للتدخل.... من منا لا يخاف... من منا لا يقلق..... من منا لا يحزن.... من منا لا يستطيع مواجهة موقف فيهرب منه ويحوله إلى صورة أخرى.
من منا لم تسيطر عليه الأفكار والهواجس التي يعلم عدم جدواها ولا يستطيع منها فكاكا... من منا لا يعاني خللا وعيبا في شخصيته يحتاج للإصلاح إن الإجابة بنعم لا تعني أننا كلنا مرضى نفسيين... ولكن تعني أننا في وقت معين وتحت ضغوط معينة نصبح في حاجة لمن يساعدنا... لمن يأخذ بيدنا لمن يطمئننا... لمن يعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا... لمن يشرح لنا ما يجري بداخلنا... ليس لأنه سوبرمان... ولكن لأنه درس وتعلم مثل أي طبيب في أي من فروع الطب كيف يتعامل مع النفس البشرية ليصبح طبيبا نفسيا يعالج المخاوف والقلق ويتعامل مع الوساوس ويذهب الاكتئاب ويصلح الشخصية ويساعد من يريد في الإقلاع عن الإدمان وليعالج أيضا من تجاوزت الضغوط حدود تحمله ففقد السيطرة على عقله حلا لأزمات عجز العقل عن حلها ففقد العلاقة مع الواقع لأنه لم يعد لديه الرغبة في العيش فيه أو التعامل معه وليصبح في وصف الناس مجنون وهو في الحقيقة مريض مثل أي مريض يحتاج المساعدة والعطف فلا يجدها إلا لدى الطبيب النفسي لأنه الوحيد الذي يدرك حالة في حين يعتبره الآخرون عارا يتنصلون منه...........
*نحن لا نقدم هذه المقالات دفاعا عن الطب النفسي أو الأطباء النفسيين ولكن توعية للناس بفرع هام لم يأخذ حقه في التوعية والاهتمام رغم أنهم في كل وقت يحتاجون لأن يعرفوا متى يذهبون للطبيب النفسي ومتى يعرفون أنهم يحتاجون للمساعدة... وليتكون لدينا حد أدنى من الثقافة النفسية حتى نصبح قادرين على التعامل مع أمراضه مثلما لدينا حد أدنى من الثقافة الطبية العامة التي تساعدنا على التوجه للطبيب الصحيح لأننا قد عرفنا أننا مرضى..
هذا ما سنحاول فعله في الحلقات القادمة فانتظرونا.
اقرأ أيضاً على مجانين:
العلاج النفسي مجرد جلسات كلام/ الأمراض النفسية كلها بسبب المس و التلبس بالجن/ الطبيب النفسي لديه قدرات خاصة و ربما خارقة على حل المشكلة