أرسلت مها يونس (50 سنة، مستشار نفسي، العراق) تقول:
أبي هو الأفضل
يطل عليك فجر ذلك الصوت الأليف وكأنه قادم من وراء السحاب ترافقه صورة الوجه أو الكتفين أو لربما أحد النعلين يهز لحظات يومك المتسارع الخطى ربما مبتسما بحنانه المعهود أو معاتبا وما أشد عذاب من تعاتبه الأشباح التي لا يستطيع محاورتها والاعتذار منها فقد طارت إلى سماء غير محددة وغادرت دنيانا الفانية هي برهة يتوقف فيها العالم ليعود القهقرى إلى زمان عشناه مع ذاك الصوت وتلك الصورة ولشد ما ألفناها، ألقيناها في زوايا الإهمال في خضم مشاويرنا حتى ظننا أن هؤلاء الأحبة باقون أو أن نهايتهم قادمة بشكل غير مفهوم ولا أحد يريد فهمه، ربما رائحة طبخة الأم أو نصيحة من أب قالها بحنان بدت في وقتها تقليدية وبعد الموت أصبحت أثيرة وجميلة، نعم الموتى لا يتكلمون مثلنا ولكنهم يتهامسون معنا وقد ينادوننا إلى حيث تكمن ذخيرتنا من الذكريات فكم من قول مضى وكم من لفتة أو شاردة عادت بنا إلى ذلك الزمان.
أحباؤنا الساكنين في السماء لا تنظروا إلينا متى ستتوقف رسائلكم الحبيبة، فديدن الإنسان الصبر والسلوان عندما يحضر الموت ولكننا نصبر وننسى لنعود ونتذكر في حلم أو طيف أو إطراقة تأمل.
أيتها الأشباح الطيبة فارقيني واسكني قبورك لكي استطيع أن أجدك في العيدين فقط وليس في كل مرة أحن لجزئي الجيد من الماضي. ليس كل ماضي جميل ماذا إذا كان مشحونا بالألم والحرمان ولكن الألفة والحنان النابعان من القلب قد يندر أن نعثر عليه مرة أخرى بعد وداع أحبائنا، سنبحث عنه وقد لا نجده وستكون لحظة التمني اليائس في أن يعود الزمن لنقول لهم كلمات الحب والعرفان بالجميل.
9/2/2010
الأخت الفاضلة الدكتورة مها؛
كلماتك الحزينة المعبرة قوية الدلالة عميقة المعاني، واسمحي لي بأن أكون أكثر وضوحا في إضافة تعليق لي على هذا الموضوع الشائك الحساس قائلا:
قد يكون الوالد قاسيا في حنانه، ولكنه أب بذل كل جهده كي يحسن تربية ابنه أو ابنته، وطريقته في التربية هي غاية ما انتهى إليه اجتهاده في فنون التربية، وهو الأب الذي قال عنه الشاعر:
قسى ليزدجروا ومن يكُ راحماً
فليقسُ أحيانا على من يرحم
وقد تكون الأم شديدة القلق على ابنتها، وعلى مستقبلها، لدرجة نفور الابنة أحيانا من نصائح الأم وتوجيهاتها!، ولكنها طباع أم رءوف تشفق على ابنتها من مآسي الحياة وغدراتها.
هنا يكون التمرد والرفض لمواقف الآباء والأمهات هو الاستجابة المعتادة من الأبناء والبنات، وأقول الاستجابة المعتادة لأنها بالفعل كذلك، وقد حاول كثير من الكتاب والروائيين والمفكرين حل هذه المشكلة الأزلية بلا جدوى وبلا طائل على مر العصور، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر ديستوفسكي في روايته "الأخوة كرومازوف"، ومن كتابنا القصاص الرائع إحسان عبد القدوس في قصته الشهيرة "لن أعيش في جلباب أبي"، ولو كان في هذا الجلباب الأمان والدفء والثراء والرفاهية في الدنيا والآخرة!!!.
وكانت الأديان السماوية أكثر حكمة وتعقلا في حل هذه المشكلة الأزلية المتكررة، فقد يكون رأي الآباء هو الصواب كثيراً، ولكن قد يكون رأي الأبناء هو الصواب أحيانا، لذلك دعت هذه الأديان الأبناء إلى طاعة الآباء في حدود ما أمر الله به ونهى عنه، ولكن عند الاختلاف مع الآباء فعلى الأبناء ألا ينسوا فضل آبائهم عليهم، وألا يتكبر الأبناء على الآباء بعلمهم أو مالهم أو سلطانهم أو نفوذهم، وأن يظهروا التواضع والخضوع للآباء وإن اختلفوا معهم في الرأي؛ وهذا مصداقا لقوله تعالى: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً"(الإسراء:24) ، وأتمثل الآن سيدنا إبراهيم عليه أفضل الصلاة والتسليم وهو يدعو أباه ويتوسل إليه أن يؤمن بالإله الواحد ووالده يرفض الإيمان بل يصنع بيديه الأصنام، ورغم ذلك فمن رقة قلب سيدنا إبراهيم عليه السلام يدعو لأبيه قائلاً: "وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ"(الشعراء:86).
ولا أنسى أيضا موقف سيدنا نوح عليه السلام من ابنه وهو يتوسل إليه أن يركب مع المؤمنين الموحدين سفينة أبيه أو سفينة النجاة، وابنه لا يصدق أن الفيضان سيغرقه ويغرق كل كافر على الأرض في ذلك الزمان السحيق!!.
من كل ذلك نخرج بأن الاختلاف بين بعض الآباء والأبناء وارد وواقع ولكن العبرة في كيفية إدارة ذلك الاختلاف الصعب في وجهات النظر، وكيف يكون الأبناء بارين بوالديهم وإن اختلفوا معهم في بعض وجهات النظر؟.
وحسن إدارة هذا الاختلاف مع والدينا يجعل الأبناء أقل ندما إن دارت بهم الأيام واكتشفوا أن آباءهم كانوا يقينا على حق، وأن رفض الأبناء للنصيحة في عنفوان شبابهم لا يعدو أن يكون ضربا
من العناد ومحاولة لتأكيد الذات بالزيف والغرور.
أختي العزيزة؛ لقد دفعتني كلماتك المؤثرة البليغة (والغامضة نوعاً ما) دفعا للمشاركة والرد، وإن كنت مُقِلاً في الكتابة هذه الأيام بغية شحن نفسي بمزيد من القراءة والعلم والاستماع والاستمتاع بوجهات نظر أهل الفكر والمعرفة؛ فلك جزيل الشكر والتقدير والامتنان على ما كتبتي لنا من خواطر نثرية راقية.
تحياتي وتقديري للجميع.
واقرأ أيضاً:
جيل منحط... جيل فاشل... جيل بلا أخلاق / ليست دعوة للعنصرية