على الرغم من قوة وعنفوان غريزة الحياة (حب البقاء) لدى الإنسان والتي تدفعه نحو التشبث بالحياة والتملك والتفوق والزواج والإنجاب والإنتاج والتعمير، إلا أن هناك غريزة أخرى كامنة في الظل تدفعه – حين تنشط – إلى تدمير كل هذا، تلك هي غريزة الموت الرابضة في أعماقنا والمحركة للسلوك الانتحاري الذي نهتز له وتهتز به ثوابتنا، ويجعلنا في مواجهة حادة ومباشرة مع حقيقة الموت وحقيقة الحياة ودوافع كل منهما بداخلنا.
والانتحار سلوك متعدد الدوافع ينشط حين يختل التوازن بين غريزتي الحياة والموت، وهو لا يولد في لحظة تنفيذه أو محاولة تنفيذه وإنما يكون رابضاً كخيار في طبقات الوعي الغائرة إلى أن يطفو فوق السطح وينشط في ظروف بعينها ليكون الخيار الوحيد الذي يراه الشخص في تلك اللحظة على أنه أفضل الحلول.
والانتحار بهذا المعنى ليس حدثاً عشوائياً، وإنما هو منظومة فكرية ووجدانية وسلوكية تنتظم أجزاؤها عبر السنين والأحداث ليبرز كوسيلة للخروج من مأزق أو أزمة في شخص وصل إلى حالة من انعدام الأمل وقلة الحيلة Hopelessness and Helplessness، وقع تحت ضغوط فاقت احتماله، وضاقت أمام عينيه الخيارات أو تلاشت، أو أرادها هو أن تضيق وتتلاشى، عندئذ أعذر وأنذر، وأرسل إشارات استغاثة لكنها لم تصل إلى من يهمه الأمر (فعلاً)، أو وصلت ولم يسمعها أحد، أو سمعت ولم يفهمها أحد، أو فهمت ولم يستجب لها أحد، وهنا وقعت الواقعة.
والإنسان في لحظة الضعف هذه لو وجد وسيلة سريعة ومؤكدة للانتحار فإنه يتجه إليها فورا للخلاص من الحياة التي أصبحت بالنسبة له عبء لا يطاق، وتختلف الوسائل من حيث الإتاحة والخطورة، وتبرز حبة الغلة خاصة في البيئات الريفية كوسيلة متاحة جدا ورخيصة جدا، وسريعة التأثير، ومؤكدة الفعل في توصيل الشخص لما يريده من إزهاق حياته.
وحبة الغلة هي عبارة عن فوسفيد الألومينيوم وعند ابتلاعها ووصولها المعدة تنشطر إلى نصفين أولهما الألومنيوم والآخر هو غاز الفوسفين والذي يعد بمثابة قنبلة يزداد انفجارها باختلاطها بحامض المعدة أو الماء وعندئذ تظهر أعراض تشبه التسمم الغذائي وهي ضيق التنفس والإعياء والغثيان وبرودة الأطراف والوهن العام والإسهال وعدم القدرة على التركيز، وتحدث الوفاة في 60% من الحالات مالم يتم الإنقاذ في وقت سريع. وللأسف الشديد لا يوجد لها مضاد للتسمم أو ما يسمى الترياق ولهذا تكون محاولات الإنقاذ صعبة.
وكثير من المنتحرين بعد الدخول في تنفيذ عملية الانتحار، أي في المرحلة الانتقالية بين تعاطيه لوسيلة الانتحار وقبل أن يلفظ أنفاسه، قد يفكر في التراجع، أو يخشى مصير الانتحار أو يهاب الموت حين يدرك قربه، ولكن للأسف حبة الغلة لا تترك هذه الفرصة فهي شديدة السمية وسريعة الامتصاص. لهذا طالبنا كثيرا وطالب غيرنا بمنع تداول هذه المادة الخطرة تحت أي مبرر، وبالتأكيد يعرف الخبراء في تخزين الغلال أن هناك بدائل لهذه الحبة القاتلة يمكن استخدامها، وفي كل الحالات لا بد من جعل تداول مبيدات الحشرات والسموم تحت قيود شديدة حتى لا يصل إليها كل من ضاقت به السبل أو انهارت دفاعاته النفسية في لحظة ضعف.
واقرأ أيضًا:
ترامب الجديد عاد لينتقم من أمريكا والعالم / الدروس المستفادة من حرب العلماء والعملاء