"الجوانب النفسية للعدوان على غزة".. هكذا كان عنوان الندوة التعليمية والدورة التدريبية لكيفية التعامل مع المتضررين نفسياً من الحروب والكوارث.
أقيمت تلك الدورة صباح أمس 28 يناير بدار الحكمة (نقابة الأطباء) اتحاد الأطباء العرب بالقاهرة.. تلك الدورة تبناها اتحاد الأطباء النفسانيين العرب برئاسة أ.د. أحمد عكاشة وبالتحديد شعبة طب نفسي الطوارئ والكوارث؛ تلك الشعبة التي ولدت ورأت النور مع أول غارة على قطاع غزة وترأسها أ.د وائل أبو هندي.. وأقيمت هذه الدورة بهدف تدريب المجموعات المقرر سفرها للقطاع ابتداء من أول فبراير القادم.
وقد ضمت لفيفاً من المختصين من داخل مصر ومن خارجها الدكتورة موزة الملكي من قطر.. وأخصائيين نفسيين واجتماعيين.. بالإضافة للمتطوعين والعاملين في مجال علم النفس.. فضلاً عن الصحافة والأقلام الشابة التي غطت الحدث.. وقد شاركنا أيضاً وفد من صناع الحياة في مصر.. وبعض من الفلسطينيين (قطاع غزة) المقيمين بمصر حالياً.
بدأت الدورة في تمام العاشرة صباحاً وكانت القاعة مكتظة بالحضور.. وقام دكتور وائل بافتتاح الدورة وقد أعطى الكلمة الافتتاحية للدكتور إبراهيم زعفران –رئيس لجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب- وكانت كلمة معبرة نابعة من مدى تأثره بالوضع في القطاع ورغم ذلك لم تغب البسمة عن وجهه طيلة الكلمة.
تحدث عن غزة وشعبها الصامد العظيم.. وأوضح مدى تمسك هذا الشعب ببث روح الصمود والمقاومة في روح صغاره.. حيث رفضت الأسر الغزاوية إرسال أبنائها الطلاب إلى مصر في استضافة أسر مصرية بديلة لإتمام عامهم الدارسي الحالي بمدارس مصرية قامت بدورها بالتبرع بأماكن لهؤلاء الطلاب. موضحين سبب رفضهم في تخوفهم على أبنائهم أن يعتادوا التدليل والحياة السهلة فيعودون وقد ضعفت صلابتهم ومقاومتهم للعدو.... تحدث أيضاً عن مدى رفض شعب القطاع السكن بالخيمات لأنهم على يقين بأن الأسرة التي ستسكن الخيمة لن تخرج منها إلي ما شاء الله.
المحاضرات التي ألقيت في الدورة:
بعد الكلمة الافتتاحية أعطى د. وائل الميكرفون للأستاذ الدكتور محمد المهدي الذي ألقى بدوره أولى محاضرات الدورة تحت عنوان (كرب ما بعد الصدمة لدى أطفال فلسطين).. وقد كانت من أروع ما قدم في الدورة من وجهة نظري؛ حيث حافظ على الأسلوب السهل المفهوم بلغة عربية واضحة وقد ندر في محاضرته استخدام الألفاظ والمصطلحات الإنجليزية.. متفاديا بذلك أي صعوبة في الفهم من قبل غير المختصين من الحضور.
أعطى تفسيرا بسيطا وشاملا عن ماهية الصدمة حتى لا يفسر أي حدث مفاجئ للطفل على أنه صدمة قد يتبعها كرب ما بعد الصدمة.. تفضل أيضا بعرض بعض من الرسوم لطفل مصري يعاني من مرض التوحد يعبر فيها عن تضامنه مع غزة ومدى فهمه للقضية بشكل واعي.. حيث لفتت نظري واحدة تحتوي على كلمة المقاطعة ومن تحتها علامات خطأ (X) كثيرة على أشياء.. وثانية كانت بمثابة مفاجأة للحضور حيث أن عمر الطفل لم يتجاوز العاشرة.. كان عبارة عن رسم لطفل وعليه علامة خطأ كبيرة جداً وأسفل هذا الرسم كتب عبارة (لا لقتل أطفال إسرائيل أيضاً).. فقد أوضح الرسم مدى وعي هذا الطفل التوحدي وإنسانيته التي افتقدها كبار راشدون.
قدم أيضاً شرحاً وافياً لما يحدث داخل الطفل من تغيرات سلوكية وتغيرات في عواطفه بعد الصدمة وقد أعطى مثالاً لتدعيم الشرح لحالة توضح (كرب ما بعد الصدمة عند الأطفال) وهي الطفل أحمد أحد الناجيين من غرق العبارة المصرية الأخيرة والذي كان سماع صوت المياه عنده محفزا لتفاعل الخوف الشديد.. أوضح أيضاً أن الصهيونية في حد ذاتها عنصرية مرضية معادية كارهة للبشرية.. ووجه دعوة في نهاية حديثه للحضور لقراءة –العهد القديم- كي يتثنى لنا معرفة عدونا بشكل صحيح ومعرفة معتقداته الدينية التي تنص بشكل واضح وصريح جداً على أن من التعبد لله وطاعته قتل الفلسطينيين تحديدا.
وبعدها ألقت د. إيمان سليمان المحاضرة الثانية للدورة تحت عنوان (الآثار النفسية لمشاهد الحرب على المشاهدين).. تلك المحاضرة كانت أكثر المحاضرات التي تم طرح تساؤلات بها من الحضور فجميعنا قد تأثر بمشاهد الحرب حتى ولو كان تأثيراً طفيفاً؛ وقد أوضحت د. إيمان الأوجه السلبية والإيجابية لمشاهدة مشاهد الحرب.. وكيفية التعامل مع السلبي منها وتطوير الإيجابي في مساندة القضية.
وقد فاز بنصيب الأسد في تساؤلات الحضور التأثير المتوقع لتلك المشاهد على الأطفال.. وتفضلت د. إيمان بشرح مدى خطورة هذه المشاهد على الأطفال دون السادسة.. وأشارت إلى وجوب وجود تفسير لكل مشهد وتوضيح من قبل الأهل للأطفال فوق ستة سنوات إذا حدث وشاهدوا مشاهد حرب.. وانتهى الحديث باتفاقنا على استحالة حجب مشاهد الحرب عن أطفالنا لأنها موجودة بكثرة في أي وسيلة إعلام.. ولكن التفسير لتلك المشاهد وعرض مشاهد أخرى إيجابية للحرب من صمود ونصر قد يخفف من ضرر تلك المشاهد على الطفل وقد يعدمه تماماً في بعض الحالات.
أيضا حملت تلك المحاضرة نصائح كي نستطيع دعم أنفسنا ومن حولنا عند مشاهدة أي من مشاهد الحرب المفزعة التي قد تؤثر سلباً على مشاهديها.
وبعد تلك المحاضرة ألقى د. محمود الوصيفي المحاضرة الثالثة في الدورة تحت عنوان (طب نفسي الطوارئ والكوارث).. وكانت تتضمن شرحاً وافياً لهذا المجال وماهيته وأهدافه والمطلوب منه.. تحدث أيضاً عن كيفية تقديم الدعم النفسي للمتضررين من الكوارث.. ورغم كون هذه المحاضر أقصر المحاضرات وقتا إلا أنها احتوت على نقطتين كان لهما تأثيراً قوياً جداً في جميع الحضور.
أولى هي أن صحيح العدوان خلف وراءه أكثر من 1300 شهيداً خلال 23 يوما إلا أنه ولد أكثر من 4000 مولود في القطاع خلال العدوان.. فضلا عن أن عدد الأطفال الذين ختموا القرآن الكريم في أيام العدوان يعد بالمئات مما أثلج قلوب الحضور وبث بدخلهم أملاً عريضاً ويقينا بأن الله ما أخذ شيء إلا وقدَّر له عوضاً عظيماً.
الثانية كانت عرضاً لتسجيل –فيلم فيديو- قصير مدته أربع دقائق؛ كان لطفلة فلسطينية عمرها لا يتعدى الثامنة تحكي عن حياتها بعدما سافرت أمها وتم الحصار مما منع الأم من العودة مرة ثانية لصغارها.. وكيفية دعمها لإخوانها الأصغر منها عندما يغيب الأب في عمله في ظل غياب الأم الدائم.. ووضح هذا الفيلم مدى رضا تلك الأم الطفلة عن وضعها رغم صعوبته.. وقد لقبناها (بالأم ذات الثامن سنوات).. فقد دمعت أعيون كثير من الحضور وبدموع الألم عن حال تلك الطفلة ممزوجة بدموع الفخر بهذه الطفلة الأم التي تدعم كل من حولها وتقويهم لمواجهة الأزمة بشجاع ورضا تام.
وهنا آذن الظهر معلنين فاصلاً قصيراً لأداء الصلاة.. وبعد الصلاة عاد الحضور من جديد بكامل العدد وقومنا بجمع أسماء من يرغب بالسفر لغزة؛ وحقاً لم أتوقع هذا الإقبال من الحضور –الذي غلب عليه التواجد النسائي-على السفر.. فأكثر من 40 استمارة تم ملؤها من أخصائيين ومتطوعين للسفر لقطاع غزة لدعم شعبها من الراشدين والأطفال ومد يد العون لهم في هذه النكبة.
التـــدريب وورش العمل
ثم بدأ الجزء العملي من الدورة وقد افتتحته أ. وفاء أبو موسى.. فلسطينية من قطاع غزة مقيمة بالقاهرة وقد شاركت في الدعم النفسي لأطفال حي الدويقة بمصر.
كانت تتحدث عن فئة الأطفال وكيفية التعامل معهم كضحايا للحرب أو الكوارث.. وكيفية جذب الأخصائي للطفل وكسب ثقته كي يستطيع دعمه بالشكل المطلوب.. تحدثت أيضاً عن تجربة شخصية لها وهي استشهاد أخيها وكيف كان للآخرين تأثيرا إيجابيا عليها في تخطي الأزمة بسبب انتقاء الأسلوب والألفاظ عند تقديم الدعم للمتضرر من كارثة أو حرب.. أوضحت أيضاً أنواع الدعم وكيفية توظيفها وقد شرحت شرحاً وافيا بالصور.
وكانت ورشة العمل متضمنة أربع حالات شائعة الحدوث في مثل هذه الظروف (الطفل العدواني- الطفل الممتنع عن الكلام- الطفل المتألم شديد الحزن- الطفل المنهار تماماً).
وتم التعرف على كيفية التعامل معهم وما المسموح به والممنوع حدوثه من قبل الأخصائي عند تقديم الدعم.. وفي نهاية حديثها أشارت أن ثمة أشياء بسيطة قد تقرب الأطفال من مقدم الدعم لهم مثل البالونات والحلوى والألعاب البسيطة.. وأيضا لفتت نظر الحضور إلى أن رسم الطفل مهم جداً فهو يظهر ما يكنه بداخله ولا يستطيع البوح به.
وكان التدريب الثاني مقدم من الأستاذة الدكتورة داليا مؤمن.. وكان مركزاً على كيفية التعامل مع الراشدين أثناء الحروب.. وأعجبتني طريقة الدكتورة في هذا التدريب حيث طلبت منا تجميع أهدافنا من التدريب كي تكون محور التدريب الرئيسي؛ فبهذا جاوبت على كل ما يدور بداخلنا من تساؤلات متفادية أي إضاعة للوقت, وتضمن هذا التدريب كيفية تحقيق الدعم النفسي للراشدين أثناء الحروب والكوارث مركزة على التفريغ النفسي وكيفية عمله بالشكل الصحيح دون الوقوع في أخطاء.
وكانت ورشة العمل قائمة على بعض نماذج من حالات متضررين نفيسا من الكوارث والحروب.. وكيفية التعرف على من يحتاج الدعم النفسي ومن في حاجة للعلاج النفسي بجانب الدعم.. وكيفية سرد الحالات للطبيب النفسي بداخل كل مجموعة كي يكون هناك فريق عمل ناجح وفعال.
أيضاً أشارت مشكورة لبعض من المخاطر والأعراض النفسية التي قد تصيب فريق العمل أثناء القيام بالمهمة جراء ما يشاهده وكيفية التعامل مع مثل هذه الأعراض بشكل ايجابي لا يؤثر على فاعلية وهدف فريق العمل بالمهمة.
في المجمل كانت دورة رائعة ذات قيمة وفائدة غاية في الأهمية والاستفادة لكلٍّ من المختصين والمتطوعين حيث تم تبادل الخبرات والمعلومات بين الجميع ومناقشة كافة الأمور والنقاط بشكل هادف وموضوعي وفعال جداً مما زاد من فاعليتها وقيمتها.
ولكن لي ملاحظتين فقط عليها قد يكون غيابهما لم يضعف من فاعليه وأهمية الدورة ولكن وجوديهما كان سيزيد حتماً من قوتها وفائدتها وهما:
- تعطيل إمكانية عرض المادة المرئية (Data show) التي أعدت مسبقاً للدورة.. فلو كانت متوافرة لكانت المعلومات والنقاط المشار إليها أكثر ثباتاً في ذاكرة الحضور لأن الذاكرة السمعية والبصرية كانت ستتوفر في الدورة ولكن تعطيلها كان خارجاً عن إرادة الجميع.
- في ورش العمل اكتفى المختصون من الأطباء النفسانيين بالنقد والتصحيح.. كنت أتمنى لو شاركوا بالأداء بداخل الورشة؛ فأظن حدوث هذا كان سيزيد من قوة الورشة وتدعيمها, لأنها ستكون بمثابة درس عمليٍّ منهم لنا ومن بعده تطبيق لما تعلمنا وتدريبا لنا.
على هامش الدورة
كانت هناك مناقشة على هامش الدورة عن حاجة الجرحى الفلسطينيين داخل مصر للدعم النفسي مثل حاجة سكان غزة أيضاً له.. وأن من لا يستطيع السفر لغزة لأي سبب يستطيع أن يقوم بذات الدور داخل مصر مع الجرحى الفلسطينيين.
وأكثر ما أعجبني في هذه المناقشة دور د. أحمد زعفان وهو طبيب نفسي شاب منذ بدأ العدوان وهو دائم التواجد بين معبر رفح ومدينة العريش لعمل الدعم النفسي اللازم للجرحى الفلسطينيين, ولا يأخذ إلا يومين أجازة يعود فيهم للقاهرة ليعاود التواجد من جديد هناك.
مما وثق هذا بينه وبين الجرحى علاقة طمأنينة ومودة حيث يقابلهم ويدعمهم نفسيا مرة فور دخولهم من معبر رفح ثم يعاود الدعم لهم مرة أخرى بمتابعتهم وزيارتهم بداخل مستشفيات مدينة العريش.
وأيضا حديث د. منى السيد وهي طبيبة شابة أيضا تعمل في مستشفيتين بالإسماعيلية واحدة تابعة للقوات المسلحة وأخرى أميرية.. عن مدى رعاية الجرحى الفلسطينيين داخل مصر وتعاطف جميع طواقم الأطباء والتمريض معهم.. وأشارت إلى سوء فهم يحدث كثيراً حيث أن طبيعة الطبيب الجراح قلة حديثه وشرح الحالة للمرضى.. مما يؤدي هذا لفهم الجريح الفلسطيني إلى توهم أن هذا الطبيب لا يتعاطف معه أو يقصر في دوره.
أشارت أيضاً إلى ضعف الإمكانيات في المستشفيات المصرية وهذا بدوره يجعل الجرحى يعتقدون أنه تقصير معهم.. وتحدثت عن مدى ترحيب جميع الأطباء بالجرحى حيث يقوم أطباء غير معنيين بالإصابات والحالات –أي من تخصصات أخرى- بزيارة الجرحى وتقديم ما يستطيعون تقديمه لهم.
انتهت الدورة في تمام الساعة الرابعة والنصف عصراً والملفت للنظر هو استمرارية تواجد جميع الحضور الذين اكتظت بهم القاعة من أول دقيقة لآخر دقيقة رغم طول الدورة ودون فواصل تذكر سوى فاصل الصلاة الذي لم يتعدى عشر دقائق.
وفي نهاية حديثي أبعث ألف تحية لكل من ساهم في هذه الدورة ولشعب غزة العظيم.. وأدعو الله أن تصحب السلامة جميع مجموعات دعمنا للشعب الفلسطيني ذهاباً وإيابا والتي ستسافر أسبوعيا.. ومقرر سفر أول مجموعة منها صباح أول أيام شهر فبراير المقبل إن شاء الله برئاسة د. وائل أبو هندي.