حين تسقط طائرة فإن الأجهزة الفنية تهتم بفحص الصندوق الأسود لمعرفة أسباب السقوط بهدف تتفادى سقوط طائرة أو طائرات أخرى في المستقبل. ومن باب أولى نفعل ذلك في حالة سقوط إنسان خاصة إذا كان السقوط درامياً ومدوياً، وليس هذا اعتراضاً أو استغراباً، فكلنا سوف نموت، ولكن استفادة مما سبق لتحسين ما تبقى.
وهذا يحدث بشكل حتمي في عالم الطب، فعلى الرغم من يقين الأطباء بحقيقة الموت وحتميته على كل حي إلا أنهم يقومون بمراجعة أسباب الوفاة في المستشفيات بهدف اكتشاف أخطاء تكون قد وقعت لتلافيها في المستقبل وبهذه الطريقة تتحسن الخدمة الطبية وتكون مع الزمن أكثر قدرة على رعاية الحياة.
ومن هنا دفعني فضولي العلمي إلى إعادة قراءة حادث سقوط الفنانة الراحلة سعاد حسنى من شرفة بالدور السادس في إحدى العمارات بلندن حيث كانت تقيم في آخر أيام حياتها مع صديقتها السيدة نادية يسرى، والتي التقيت بها وسمعت منها تفاصيل مهمة إضافة إلى ما سمعته شخصيا من بعض الأطباء اللذين كانوا على صلة مباشرة بها في السنوات الأخيرة، إضافة إلى ما نشر في الصحف والمجلات وصفحات الانترنت، وحاولت من كل ذلك أن أكون صورة تربط بين الحقائق الموضعية (الأحداث كما وقعت) والحقائق النفسية (الأحداث كما يستقبلها ويتأثر بها البشر)، وسوف يلاحظ القارئ أن تلك الرؤية لا تحمل موقفاً حكمياً أو قيمياً، وإنما تبقى رؤية علمية محايدة كطبيعة العلم دائماً.
وليعذرني القارئ (والقارئة) عن هذه المقدمة التي رأيت أنها ضرورية، ولنبدأ الآن في قراءة (أو بالأصح إعادة قراءة) القصة ونعود إلى بداية البداية، حيث ولدت الفنانة الراحلة عام 1942 في حي العتبة بالقاهرة وفى أسرة تتكون من 17 من الإخوة والأخوات غير الأشقاء، وكانت كثير من الشواهد تدل على أن فترة طفولتها (وسط هذا العدد الكبير من الإخوة والأخوات) لم تكن سعيدة، فمن المتوقع أن تتوه هذه الطفلة وسط هذا الزحام أو تدخل في صراع للحصول على حقها في الحب والتقدير من أبوين مرهقين بهذا العدد الكبير من الأبناء والبنات.
وقد تعرضت في طفولتها وصباها لصعوبات وأحداث مؤلمة تركت بصماتها على طبيعتها وحياتها فيما بعد، فالذين عرفوها عن قرب وصفوها بأن شخصيتها كانت تختلف كثيراً عن تلك الصورة التي يراها الناس على الشاشة، فهي في حياتها هادئة وخجولة جداً (كما وصفها علي بدرخان الذي تزوجها لمدة 12 عام) على عكس شقاوتها ومرحها حين تظهر على الشاشة.
وبما أن للأسرة ميولا فنية ظهرت في أكثر من فرد من أفرادها (أشهرهم المطربة نجاة) فقد وجدت سعاد طريقها إلى عالم الفن وكانت تركيبتها الجسمانية تغري المخرجين بوضعها في قالب "البنت الدلوعة الشقية" وقد لعبت هذا الدور ببراعة واكتشفت أنها أصبحت الآن محل إعجاب وانبهار ملايين المعجبين في كل مكان في مصر والعالم العربي، وكان هذا تحولاً نفسياً هائلاً في حياتها حيث خرجت من وسط الزحام الأسري ومن الضياع والإهمال وسط عدد كبير من الإخوة والأخوات إلى حيث التفرد والتميز تحت أضواء الكاميرات في الاستوديوهات وعلى صفحات المجلات والصحف وصارت في سنوات قليلة فتاة أحلام المراهقين والشباب، بل والكبار أيضاً.
وبما أن هذه الشخصية الفنية الجديدة (مصباح علاء الدين) قد لبت لها كل احتياجاتها من الحب والتقدير والإعجاب فقد تمسكت بها وأجادتها وأعطتها كل وقتها واهتمامها، ولم تكن تهتم كثيراً بما تجنيه من مال لأنها كانت أكثر احتياجاً للحب والتقدير والإعجاب والانبهار، ولهذا لم تكون ثروة كبيرة من أعمالها الفنية التي بلغت حوالي 83 فيلماً غير المسلسلات والأغاني، ولهذا عانت من مشكلات مادية كثيرة في نهاية حياتها. وشيئاً فشيئاً حدث تدعيم نفسي لهذه الذات الجديدة ذات الوجه الجميل والجسد الجميل والصوت الدافئ والشخصية التلقائية الساحرة، وتضخمت هذه الذات مع الوقت حتى أصبحت السند ريلا وطارت عالياً في سماء الشهرة.
وعلى الرغم من تضخم هذه الذات الجديدة المحبوبة إلى درجة النرجسية إلا أن الذات الطبيعية الهادئة الخجولة الحزينة ظلت قابعة في أعماقها تعود إليها كلما ابتعدت عن الكاميرا فيراها المقربون منها، فإذا وقفت أمام الكاميرا مرة أخرى ظهرت الذات الفنية بشكل سريع وتلقائي مذهل وكأنما تلبستها روح أخرى، وهذه الثنائية في شخصيتها قد التقطها بعض المخرجين فقدموها في فيلم نادية ليوسف السباعي وفيلم بئر الحرمان لإحسان عبد القدوس وقد أدت الدورين ببراعة هائلة لأنهما كانا يعبران فعلاً عن نفسها.
وفى غمرة انشغالها بأعمالها الفنية (في الستينات والسبعينات) كان يحدث نوع من التنفيس للمشاعر المتناقضة من خلال لعب الأدوار المختلفة وكأنه نوع من السيكودراما (الدراما النفسية) فكان ذلك النوع من العلاج المهني يؤجل أو يخفف من ظهور المشاعر الاكتئابية التي كانت تحتفظ بها من مرحلتي الطفولة والصبا. وربما يسأل سائل: ولماذا لم تشفى من اكتئابها تماماً من خلال هذا العلاج السيكودرامي خاصة وأنها تمارسه بكثافة وباقتدار؟
والجواب هو أن حياتها الفنية والاجتماعية لم تكن وردية تماماً كما يراها الناس من الخارج ولكن كانت هناك الكثير من الأحداث شديدة الإيلام لنفسها لدرجة أنها كانت تتجنب الحديث عن تفاصيلها لأقرب المقربين إليها، يضاف إلى ذلك إحباطات كثيرة بقدر حجم الذات المتضخمة الجديدة. وهناك بعد آخر يتصل بطبيعتها كفنانة تغوص في أعماقها وفى طبقات عميقة في الكيان الإنساني, وهذا الغوص العميق (الاستبطان) في الطبقات المظلمة أو المجهولة يعتبر أحد مخاطر المهنة بالنسبة للفنانين والمبدعين حيث يجعلهم أكثر رؤية وأكثر ألماً في ذات الوقت. وخطر الغوص في الأعماق لا يختلف عن الخطر الذي يتعرض له البناءون حين يمارسون أعمال البناء فوق سقالات عالية.
وكما تقول نادية يسرى (صديقتها): "كانت سعاد في اكتئاب طوال عمرها وزاد في الفترة الأخيرة". فقد كان الاكتئاب رابضاً في أعماقها طول الوقت على الرغم من الشهرة والنجاح، ويقال أنها دخلت المزرعة الاستشفائية (Health Farm) سنة 1969 لبعض الوقت سراً بسبب حالة اكتئاب انتابتها في ذلك الوقت، ويقال أيضاً أنه كانت هناك محاولة سابقة للانتحار بإلقاء نفسها من مكان مرتفع إثر أزمة عاطفية.
هذان الحدثان (دخول المزرعة الاستشفائية ومحاولة الانتحار) على الرغم من عدم وجود أدلة موثقة على حدوثهما إلا أن بعض المقربين منها يذكرونهما وسواء حدثا بهذا الشكل أو بغيره إلا أن الواقع يؤكد وجود الطبيعة الاكتئابية لديها على الرغم من وجود الشخصية الفنية المرحة، وتصبح الأخيرة رد فعل للأولى (Reaction Formation)، ومع تقدم العمر راحت الطبيعة الاكتئابية تطل برأسها شيئاً فشيئاً فتظهر بشكل لا يخطئه المتخصصون، فالمتأمل لملامح وجهها في فيلم المشبوه وفيلم حب في الزنزانة يلمح بوضوح قسمات وجه عرف الاكتئاب كثيراً ولا ينخدع بأن هذا مجرد تمثيل لحالة حزينة في الفيلم.
وفجأة تصاب سعاد حسنى بكسر في عمودها الفقري وتصبح لفترة طويلة غير قادرة على الحركة وتجلس في شقتها المتواضعة بعيدة عن الناس وتقل حركتها ويزداد وزنها بشكل ملفت للنظر لدرجة أنها أصبحت تكره أن يراها الناس في هذه الصورة التي كانت تعتبرها بشعة. ولم تحتمل هذا الوضع كثيراً فقررت الهروب… الهروب من ماذا؟…
الهروب من مُعجبيها حتى لا يرونها في شكلها الذي آلت إليه والهروب من ذاتها الجديدة التي لا تتقبلها. وحرصت أثناء رحلة الهروب أن لا يراها أحد فخرجت إلى المطار في سرية تامة قاصدة لندن بحثاً عن العلاج من ناحية وبحثاً عن الذات المفقودة من ناحية أخرى، فقد كانت أشبه بمن فقدت مصباح علاء الدين السحري (وجهها وجسمها وسحرها) الذي كان يحقق لها كل شيء.
وتاهت في ضباب لندن وسط أناس لا يعرف معظمهم شيئا كثيرا عن تاريخها وعن فنها لدرجة أنها كانت تهديهم نسخاً من أعمالها الفنية لكي يروها فكانوا يضعونها -كما قال أحدهم- على أرفف مكتباتهم دون أن يروها نظراً لانشغالهم بحياتهم. وظلت تصارع المرض وتصارع الغربة (وسط أناس لا تعرفهم ولا يعرفونها) وتصارع الاغتراب (الإحساس بأنها لم تعد هي)، وفى هذه الفترة كانت تتهرب ممن يعرفونها فتكتفي بالرد على اتصالاتهم التليفونية دون لقائهم (كما فعلت مع المخرج المعروف الذي حاول زيارتها في لندن)، أو حتى تتهرب من تلك الاتصالات التليفونية بتغيير أرقام تليفوناتها كما حدث مع صقتها زبيدة ثروتدي التي عجزت عن الاتصال بها لمدة طويلة.
عند هذه النقطة نستطيع أن نقول إن هذه الشخصية التي سبق وأن طارت في سماء الشهرة وكبرت وتضخمت قد أصيبت الآن بجرح نرجسني (Narcissistic Injury) نظراً لتغير صورة الذات (Self Image) وعدم قدرتها على قبول هذا الواقع الجديد ومواكبته إما بالقيام بأعمال تتناسب مع هذه المرحلة من العمر والمراحل التي تليها (كما فعلت كثير من الفنانات) أو العزلة الايجابية وتلبية احتياجات الروح في التواصل مع الله والتوجه إليه بالحب الأبدي كما فعلت رابعة العدوية قديماً وكما فعلت المطربة شادية وغيرها حديثاً.
كانت سعاد حسنى تريد استعادة مصباح علاء الدين المفقود بأي طريقة فحاولت قراءة سيناريو فيلم تمثله حين تعود إلى القاهرة وكان دورها فيه هو دور "المهرجة" وذلك لكي يغطي قناع المهرجة عيوب وجهها وجسمها، ويبدو أن هذا الدور آلمها إيلاماً شديداً فكيف تقبل أن تصبح مهرجة بعد هذا التاريخ الفني الطويل. وحاولت مرة أخرى أن تؤدي رباعيات صلاح جاهين (أستاذها وصديقها) بصوتها ولكنها لم تكملها. وهكذا لم تعد قادرة على العودة إلى ما كانت عليه، وهنا سقطت في بئر الاكتئاب.
ومن الناحية الطبية البحتة كان هناك عدد من الأسباب المنطقية لاكتئابها وهي:-
1- الألم المزمن في ظهرها وفى أجزاء أخرى من جسمها.
2- التغير في صورة الذات بسبب زيادة وزنها وبسبب شلل في عصب الوجه.
3- تأثير الأدوية المسكنة للألم وأدوية الكورتيزون حيث إن هذه الأدوية حين تعاطيها لفترة طويلة تسبب حالات من الاكتئاب الشديد.
4- المرحلة العمرية التي كانت تعيشها حيث كانت فوق ألـ 55 من عمرها وهي المرحلة التي توقفت قبلها الدورة الشهرية وحدثت تغيرات في هرمونات الجسم تهيؤها للاكتئاب.
5- اجتماع ثنائية الغربة والاغتراب، فقد حدثت عملية خلع اجتماعي من الوسط الذي عاشت فيه وأحبته إلى مجتمع غريب عليها وهي غريبة عليه.
6- المشكلات المادية المزمنة التي كانت تواجهها فقد أنفقت هي على علاجها في السنة الأولى ثم عولجت على نفقة الدولة بعد ذلك، ثم توقف هذا الدعم الحكومي في الفترة الأخيرة حيث لم يكن هناك سبب طبي موضوعي لاستمراره إلى ما لا نهاية، خاصة أن ما تعاني منه يمكن التعامل معه في مصر.
7- سقوط الأسنان أو خلعها في الفترة الأخيرة مع التهاب في اللثة جعلها تستخدم أسناناً مؤقتة لحين قدرتها على زرع أسنان دائمة.
وكانت المحاولة قبل الأخيرة هي أن تدخل مزرعة الاستشفاء (Health Farm) على أمل أن تستعيد صحتها وتستعيد ذاتها، وفعلاً تركت شقتها التي كانت تستأجرها وانتقلت إلى المزرعة حيث كانت تحاول أن تنقص وزنها وتعالج شلل وجهها وتعالج جرح نفسها، ولكن يبدو أن هذه المحاولة الأخيرة فشلت فخرجت من المزرعة (المصحة) دون أن يُتأكد شفاؤها من الاكتئاب حسب ما ورد في التقرير الطبي حيث كان حاجز اللغة يحول دون معرفة تفاصيل دقيقة في حالتها على الرغم من أنها كانت تتعاطى مضادات اكتئاب في تلك الفترة.
وبعد خروجها من المصحة بيوم أو بثلاثة أيام (نظراً لاختلاف الروايات) تسقط من شرفة شقة صديقتها نادية يسري، وتثور تساؤلات كثيرة: هل انتحرت؟… هل قُتلت؟… ولكل تساؤل مبرراته فتساؤل القتل يرجع ذلك إلى خوف بعض الجهات من أسرار تحملها سعاد حسني من فترة الستينات يمكن أن تبوح بها أو تنشرها في مذكراتها… وهذا التساؤل أو الاحتمال نتركه للتحقيق لكي يثبته أو ينفيه.
أما الاحتمال الأكثر قبولاً ومنطقية وهو احتمال هروبها من الحياة (سواء بيدها أو بيد غيرها) فهو الذي نناقشه هنا، والذي يشجعنا على تبنيه هو حالة الاكتئاب التي لازمتها في فترات طويلة من حياتها وكانت تخفيها في بعض الفترات وتظهر رغماً عنها في فترات أخرى وزادت حدتها بشكل واضح في السنوات الأخيرة وبشكل أوضح في الشهور الأخيرة ومن المعروف طبياً أن نسبة حدوث الانتحار في حالات الاكتئاب 15-18% وهي نسبة عالية ولكن يبرز سؤال: لماذا تنتحر هذه النسبة دون سائر المكتئبين إذا كانت التغيرات الكيميائية في المخ تحدث لهم جميعاً؟
والإجابة أن الاكتئاب درجات، وقد وجد أن الأشخاص المكتئبين الذين حاولوا الانتحار كانت نسبة السيرونين في المخ منخفضة جداً في الوقت الذي حدثت فيه محاولة الانتحار، هذا من جانب، أما من جانب آخر فإن هناك عوامل خطورة (Risk factors ) تحدد مدى قابلية الشخص لفكرة الانتحار، وللأسف فإن أغلب عوامل الخطورة هذه كانت موجودة عند سعاد حسنى وقد ذكرناها سابقاً ونحن نتحدث عن أسباب اكتئابها فهي قد وصلت إلى سن 59 سنة وتعيش وحيدة ولديها مشكلات مادية كثيرة ومصابة بالاكتئاب وتعيش في غربة، وفقدت قدرتها على العمل وفقدت بريق شهرتها ونجاحها، ولم تنجح في تبني برنامج جديد لحياتها طبقاً لهذه المتغيرات الجديدة سواء بقبول أدوار تناسب ظروفها أو الرضا بما فات والاستعداد للذوبان في عالم الروح سعياً نحو النهاية المحتومة في حالة من السلام والتسليم،
وبما أن سعاد حسني عاشت للفن طوال حياتها فربما تكون قد مالت إلى الاختيار الفني لنهايتها والذي عبرت عنه صديقتها نادية يسري بقولها "يمكن عايزة تعمل Dramatic end لحياتها".
ففي عالم الأدب والفن يأخذ خيار الانتحار أبعاداً مختلفة وربما تبدو مغرية لأصحاب الحس الفني والأدبي. فكثير من النقاد يقولون بأن أفضل عبارة كتبها شكسبير في كل ما كتب هي تلك العبارة التي وردت في مسرحية هاملت: "أكون أو لا أكون" (to be or not to be) فالإنسان في نظره إما أن يحقق ذاته بقوة وإما أن يختفي من الوجود، وهذا هو الانتحار الوجودي الذي تبناه كثير من الأدباء والفنانين، فها هو كورت كوباين (Kurt Cobain) عازف موسيقى الروك الذي انتحر عام 1994 يقول : " أن تحترق أفضل من أن تنطفئ (It is better to burn out than to fade away ) وهناك مجموعة في بريطانيا تسمى حركتها "الحق في أن تموت" ويسمي أحد فلاسفتهم الانتحار بأنه "ولادة الذات" (Self Deliverance)، وفي كثير من الكتابات الأدبية والفنية نجد تعبيرات: "الموت النبيل.. الموت الشريف.. الخيار الحر.. خلاص الذات.. الصعود عبر بوابة السماء" وكلها تعتبر عن الموت انتحاراً. ونجد روائياً كبيراً مثل ديستوفيسكى يتحدث في أحد رواياته عن الانتحار المنطقي (logic Suicide) وهذا الموقف الأدبي والفني رغم بريقه في نظر بعض الأدباء والفنانين (خاصة حين يصور في مسرحيات شكسبير بشكل درامي) فإنه موقف خطر حيث يجعل خيار الانتحار جميلاً وربما أخلاقياً (نبيلاً) ويضع الكثير من المعتنقين لهذه الأفكار وأتباعهم على حافة الخطر.
وعلى الجانب الآخر نجد الموقف الديني (في كل الديانات) ينهى عن قتل النفس، بل ويجرم هذا الفعل وينفر منه، ويتضح هذا في قوله تعالى: "وَلاَ تقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّّهِ يَسِيراً" [النساء آية: 29، 30]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قتل نفسه بشيء عُذب به يوم القيامة" (رواه البخاري ومسلم). وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم مخلداً فيه أبداً. ومن نزل من جبل فقتل نفسه فهو ينزل في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً"(مخرج في الصحيحين).
وهذه النصوص القاطعة كان لها أكبر الأثر في إبعاد الكثيرين المعرضين لخطر الانتحار عن هذا الاختيار ولكن يبرز سؤال هام هنا؟
إذا كان الاكتئاب اضطرباً كيميائياً يفقد فيه الشخص القدرة على الإدراك والحكم على الأمور بشكل طبيعي. فهل يؤاخذ المنتحر على انتحاره كما يؤاخذ بقية الناس؟
وللإجابة عن هذا السؤال الصعب نسترشد برأي الطب ورأي الدين معاً حتى تكتمل الصورة. يقول الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي ورئيس الجمعية العالمية للطب النفسي (مجلة التصرف الإسلامي - عدد 269 - أغسطس 2001 ):
"الاكتئاب مرض عضوي كيميائي ينتج عن خلل بالمخ وعليه فمن ينتحر مكتئباً لا يتحمل أية مسئولية جنائية، ومكمن الخطورة عدم استجابة المكتئب للعلاج فيصل به الحال لاتخاذ قرار بالانتحار في 20% من الحالات لشعورها بالعجز عن المواجهة واليأس من الحياة، ولكن مع الأدوية الحديثة وأساليب العلاج المتطورة تتضاءل نسبة المنتحرين بسبب الاكتئاب، والمريض بالاكتئاب الشديد هو فاقد للوعي وللإدراك ومعفى من المسئولية عند انتحاره، ومثله مثل ذهان النفاس عندما تقتل الأم رضيعها ثم تنتحر بعد ولادتها.. وفى جميع الأحوال حساب المنتحر عند ربه".
ويقول الدكتور عبد الصبور شاهين (التصوف الإسلامي- عدد 269 - أغسطس 2001): "إذا حان الموت استدعى بعض أسبابه لتكون مبرراً لوقوعه" ولذلك يقال مثلاً: انتحر فلان من الاكتئاب. والحكم الأساسي هنا أن لابد أن يموت منتحراً ولابد من مبرر لاستدعاء الموت، والرغبة في الانتحار سبب كافي مثل الاكتئاب واليأس والجنون كلها أسباب بين يدي الموت والحكم الأساسي أن يموت الشخص، ومن ينتحر مقدر عليه أن يموت منتحراً وحسابه عند ربه ومسئولا بين يدي الله".
ومن هنا يتضح أن المكتئب اكتئاباً شديداً يمر بظروف غير طبيعية تؤثر في إدراكه وفي خياراته، وهو يميل إلى خيار الانتحار حين يختل التوازن لديه بين عوامل الخطورة (Risk Factors) وعوامل المساندة (Support Factors) وقدرة المكتئب على الاحتمال أو عدم الاحتمال لما هو فيه يعلمها الله وحده، ولا نستطيع أن نقول بأن الاكتئاب رخصة للانتحار لأن هناك نسبة كبيرة من المكتئبين (80-85%) لا ينتحرون. وهناك تساؤل "يُثار في حالة الفنانة الراحلة سعاد حسنى بشكل خاص" وهو: كيف تنتحر وقد كانت تخطط للعودة إلى مصر في شهر يوليو (أي بعد شهر تقريباً من خروجها من المصحة)؟
والجواب هو أن هذا الرجوع إلى مصر في حد ذاته كان مهدداً جداً لها فقد كانت تخشى تلك اللحظة التي ستواجه فيها معجبيها ومحبيها بشكلها الذي ترفضه وتتوقع أن يرفضوه وأن ينفروا منه وقد ذكرت ذلك لصديقتها نادية يسري فقالت: "الله يا نادية المطار ها يبقى شكله إيه لما أرجع" وفي أحد المرات كانت سعاد حسني ونادية يسري تمارسان لعبة أن تكتب كل واحدة كلمات في ورقة معها ثم تعطيها للأخرى، فكتبت سعاد حسني في ورقتها: "الجمهور عايز يشوف سعاد حسني إزاي" ويثور تساؤل آخر: كيف تنتحر وقد خرجت من المصحة متحسنة على الأقل جزئياً ولم تنتحر قبل ذلك وهي في قمة اكتئابها ومرضها؟
والإجابة هي أن الاكتئاب له مكونان:
- المكون الحركي (عدم القدرة على الحركة والإحساس بالخمول والكسل الشديد)
- والمكون الواجدني (الحزن وفقد القدرة على الاستمتاع أو الاهتمام بأي شيء) وفي المراحل الأولى من الشفاء تتحسن القدرة على الحركة (شفاء الاكتئاب الحركي) في حين يتأخر شفاء الاكتئاب الوجداني بعض الوقت، وفي هذه الحالة تصبح المريضة أكثر قدرة على تنفيذ الانتحار من ذي قبل على الرغم من التحسن الظاهر في بعض الجوانب.
ويثور تساؤل ثالث: لقد قيل إن مارلين مونرو انتحرت وبعد ذلك رجحت فكرة قتلها، فلماذا لا يكون هذا هو الوضع في حالة سعاد حسني؟
والإجابة هي أنه حتى لو أثبتت التحقيقات شبهة القتل، فإنه يبقى أمر هام وهو أن سعاد حسني في وضع يجعلها ترغب في الهروب من الحياة سواء تم ذلك بيدها أو بيد غيرها، وهذا ما نسميه بالسلوك الانتحاري (Suicidal Behavior) وهو يختلف عن الانتحار نفسه، ففي السلوك الانتحاري يقوم الشخص ببعض السلوكيات التي تعرضه للمخاطر المميتة بحيث تكون النهاية هي الموت سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا ما فعلته مارلين مونرو حيث كانت تتصرف في نهاية حياتها بشكل خطر عرضها للموت سواء بيدها أو بيد غيرها، ويحتمل أن تكون الراحلة سعاد حسني في نهاية حياتها في أوضاع تجعلها تفضل خيار الموت على الحياة التي لم تعد تطاق.
ويبقى هذا الموت الدرامي باعثاً لكثير من الرسائل لكل من ساهم أو تقاعس عن المساهمة حتى كانت هذه النهاية المؤلمة، وتبقى الحقيقة الباقية وهي أن من ماتوا أمرهم إلى الله ورحمته الواسعة أما من عاشوا فهم في حاجة إلى مراجعة نواياهم ومواقفهم قبل أن يصلوا إلى النقطة التي تستحيل فيها تلك المراجعة، ونسأل الله الرحمة للجميع.
واقرأ أيضًا:
أزمة منتصف العمر / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / سيكولوجية التعذيب