منذ أن وطأت أقدام الجنود الأمريكيين أرض بغداد أصبحت أمريكا تحت جلد 250 مليون عربي ومليار مسلم ولا ندري إلى متى تستمر هذه الحالة، ولذا وجب علينا فهمهم بشكل واقعي، بعيداً عن الأماني والانفعالات.
وربما يقول قائل: وهل يمكن ببساطة فهم سلوك دولة كبيرة مثل أمريكا هي أقرب ما تكون نصف قارة جغرافياً و40% من العالم اقتصادياً وعسكرياً؟... وهذا بالطبع صحيح، ففهم هذه القوة البشرية والجغرافية والاقتصادية والعسكرية ربما يبدو صعباً في الظاهر، نظراً لتشابك المواقف وتعدد المصالح والتوجهات، ولكن هناك مفاتيح تجعل من السهل قراءة سلوك أي فرد أو مجتمع بشكل أقرب إلى الصحة إذا أحسنا اختيار هذه المفاتيح واستخدامها.
والمجتمع الأمريكي بما أنه لا يملك جذوراً تاريخية وليست له أعماق حضارية لذلك فهو يهتم ببعدين فقط من أبعاد الزمن وهما الحاضر والمستقبل ويحاول بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة أن يملأ هذين الزمنيين بالإنجازات الضخمة، فالإنجاز هنا هو الهدف ويجب الوصول إليه بأي طريقة ولا يوجد عذر إنساني أو أخلاقي أو غيره للتوقف عن الوصول إليه، ومن هنا نشأت فلسفة البراجماتيزم (Pragmatism) وهي تعني (النفعية) أو (المصلحية) بمعنى أن المجتمع الأمريكي يسعى نحو كل ما ينفعه ويحقق له مصالحه مستبعداً في طريقه نحو تحقيق ذلك كل الأعراف الإنسانية والقيم الأخلاقية والقوانين الدولية إذا وجد أنها ستمنعه عن تحقيق مصالحه، أما إذا وجد أن هذه الاعتبارات مفيدة له في بعض المواقف فإنه يستدعيها وينشطها، ويصبح من المتحمسين لها.
وهنا يقف التقليديون من البشر ويقولون: (هذه ازدواجية في المعايير) وهو تعبير أصبح سائداً في وصف المواقف الأمريكية، وهي في الحقيقة ليست فقط ازدواجية، بل تعددية في المعايير حيث تتعدد بتعدد المصالح والأهداف، وأمريكا لا تجد حرجاً في ذلك لأن الحرج موقف أخلاقي وكما قلنا قبل ذلك أن الفلسفة النفعية (البراجماتيزم) لا تعير الجانب الأخلاقي اهتماماً إلا إذا كان يحقق لها شيئاً، فالأخلاق لديهم موجودة ولكنها نسبية وليست مطلقة، فالصدق قيمة أخلاقية رائعة إذا كان يحقق انضباطاً في العمل وزيادة في الانتاج، ولكنه يصبح عبئاً إذا كان عائقاً أمام تحقيق مصالح دولية معينة، ولذا يجب التعامل مع هذه الأشياء بمرونة وبدون أي حرج أو خجل أو حياء فالقيمة الأخلاقية تكتسب مصداقيتها ووزنها مما تحققه من مكاسب وليس منها هي في حد ذاتها.
وإلى هذا الحد كان ذلك مقبولاً بدرجة ما على أساس أن كل مجتمع له الحق في اختيار فلسفة حياته سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، ولكن المشكلة التي حدثت وأصبحت تهدد سلام العالم واستقراره هي أن هذه الفلسفة الأمريكية قد تحولت إلى دين أمريكي جديد وذلك بعض وصول ذلك التيار اليميني المتشدد إلى السلطة والمتحالف مع اليمين الصهيوني الليكودي وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 حين وقف الرئيس الأمريكي بوش وأعلن عبارته الشهيرة: (من ليس معنا فهو ضدنا)، ومن هذه اللحظة تحولت الفلسفة الأمريكية إلى دين أمريكي، والفرق شاسع بين الاثنين فالفلسفة بطبيعتها أفكار نسبيه تقبل بل تستلزم المناقشة وإعادة النظر؛
أما الدين فهو أقرب إلى الحقائق المطلقة التي لا تحتمل إلا التصديق والعمل بمقتضاه، ومنذ هذه اللحظة أصبح واضحاً أن أمريكا لا تحتمل من المجتمع البشري إلا الانقياد لما تراه هي صحيحاً بصرف النظر عن منطقيته أو موافقته أو عدم موافقته للاعراف والقوانين الدولية ولمقررات الأمم المتحدة؛ فالدين الأمريكي الجديد يجب ما قبله، والرؤية الأمريكية هي الصواب بعينه، وكان هذا الموقف واضحاً جداً في أزمة العراق، فقد كانت أمريكاً ترى أنها يجب أن تزيح النظام العراقي وتحتل العراق، وحين لم يسعفها المنطق ولم تجد سنداً من القانون الدولي دفعت بكل هذا جانباً وفعلت ما تراه هي ووضعت المجتمع البشري أمام خيارين:
إما الإيمان بالدين الأمريكي الجديد وفي ذلك النجاة من بطش أمريكا وإما الكفر بهذا الدين والتمسك بمبادئ قانونية وأخلاقية قديمة تجاوزتها الحقبة الأمريكية وفي ذلك خطر التعرض للغضب الأمريكي والبطش الأمريكي كما حدث في أفغانستان والعراق وكما تهدد به سوريا وإيران وحزب الله وحماس والجهاد وكوريا الشمالية.
والبراجماتيزم يختلف عن كل الأديان السماوية والوضعية السابقة في أنه لا يؤمن بقيم مطلقة أو أخلاق مطلقة أو قوانين مطلقة أو أعراف مطلقة، فكل شئ فيه قابل للتغير والتبدل حسب اتجاهات المصالح والأهداف، فالصدق والأمانة والعدل وحقوق الإنسان والشرعية الدولية… إلخ كلها مفاهيم متحركة ونسبية، ولا يوجد شئ مطلق في هذا الدين الأمريكي الجديد إلا "المنفعة" وتحقيق الأهداف الأمريكية.
وربما يسأل سائل : ما موقف هذا الدين الأمريكي الجديد من الأديان السماوية والوضعية الأخرى؟ والجواب هو أن البراجماتيزم كدين سيسعى إلى استخدام كل هذه الأديان في تحقيق مصالحه وذلك من خلال تعديل مفاهيمها بما يخدم الدين الجديد، أما إذا تعارضت معه فالتهمة جاهزة وهي "الإرهاب" .
والدين الأمريكي الجديد يقوده مجموعة من المتدينين اليمينين في النخبة الحاكمة الأمريكية والإسرائيلية وربما يسعون إلى ضم مجموعات من الأديان الأخرى تؤمن بنفس المبدأ وتحور أديانها ومبادئها لتحقيقه، ففي كل المجتمعات أفراد يتحلون بذلك النوع من التدين النفعي (Pragmatic Religiosity) وفي هذه الحالة نجد أن الشخص يلتزم بالكثير من مظاهر الدين الخارجية للوصول إلى مكانة اجتماعية خاصة، أو تحقيق أهداف دنيوية شخصية وهؤلاء الناس أصحاب هذا النوع من التدين (أو التظاهر بالتدين إن صح التعبير) يستغلون احترام الناس للدين ورموزه فيحاولون كسب ثقتهم ومودتهم بالتظاهر بالتدين، والشخص في هذه الحالة يسخر الدين لخدمته وليس العكس، وتجده دائما حيث توجد المكاسب والمصالح.
ولم تكن مصادفة أن يعلن بوش "الابن" مولد هذا الدين الجديد الموافق لتركيبته الشخصية فقد قضى شطراً من حياته بعيداً عن الدين، يلهو ويمرح ويأخذ من متع الدنيا وملذاتها بصرف النظر عن الحرام والحلال، ووقع في ادمان الكحول فترة ليست بالقصيرة وتم توقيفه بواسطة البوليس وهو في حالة سكر، ثم تحول بفعل الظروف من النقيض إلى النقيض فبدأ بالالتزام بالكثير من مظاهر الدين واتسم تدينه بالعاطفة القوية والحماس الزائد، ولكن مع هذا بقي تدينه سطحيا تنقصه الجوانب المعرفية والروحية العميقة؛
وفي بعض الأحيان كان يتطرف في التمسك بمظاهر الدين حفاظاً على توازنه النفسي والاجتماعي وخوفاً من الرجوع إلى مرحلة الإدمان الكحولي التي مازالت تطارده وهذا النوع من التدين نسميه "تدين رد الفعل" وهو تدين ناقص وسطحي تنقصه الجوانب الروحية وينقصه التوازن الجميل بين الجوانب المعرفية والعاطفية والسلوكية.
ونظراً لعدم وجود زمن ماضي في التاريخ الأمريكي فإن الأمريكيين ينفرون من كل متعلقات هذا الزمن مثل القيم الحضارية والأخلاقية والدينية والقانونية لأن هذه القيم كانت نتاج الشرق القديم أو أوربا القديمة، لذلك وجدنا أمريكا تسخر من هذه القيم وتسفهها قولاً أو فعلاً لتنشئ بدلا منها قيماً أمريكية جديدة ومرنة تسمح بتحقيق الأهداف والمصالح الأمريكية بعيداً عن القيود القانونية والأخلاقية والدينية القديمة.
فإذا دخلنا إلى الشخصية الأمريكية باستخدام ذلك المفتاح فإننا نفهم (أو نكاد أن نفهم) السلوك الأمريكي في المواقف المختلفة وفي الأماكن المختلفة من العالم ونفهم تناقضاته وازدواجيته وتعدد اتجاهاته وانطلاقاته، ونفهم أيضاً حيرة بقية البشر الذين يعجزون عن الإيمان بهذا الدين النفعي الجديد ويعجزون بالتالي عن التوافق مع معطياته، ذلك التوافق الذي يستلزم منهم ان يطرحوا نماذج تفكيرهم السابقة، وأن يطرحوا موازين قيمهم وأخلاقهم المتعارف عليها منذ قرون طويلة، وأن ينضووا تحت هذه الراية الأمريكية الجديدة إذا أرادوا أن يعيشوا في سلام بعيداً عن بطش العصا الأمريكية التي لا ترحم.
واقرأ أيضاً:
العراق وفيتنام .... أوجه التشابه / حملة: ارفعوا أيديكم عن نفط العراق